حرية
العدد 156 | 16 تموز 2014
جوناثان فرانزين/ترجمة: أسامة منزلجي


الفصل الأول من رواية “حرية” الذي يأتي في ملف عن جوناثان فرانزين يتضمنه هذا العدد الذي يحتوي أيضاً لقاء معه وقراءة في أدبه أيضاً

    لم ينتشر النبأ حول والتر بيرغلند محلياً – كان قد انتقل مع باتي إلى واشنطن قبل ذلك بعامَين وهما الآن لا يعنيان أي شيء لبلدة سينت بول – لكنَّ أهل الطبقة الراقية في رامسي هيل لم يكونوا شديدي الولاء لمدينتهم إلى درجة ألا يقرؤوا صحيفة ” نيويورك تايمز “. وبحسب المقالة الطويلة والمُغرِضة الواردة في ” التايمز “، أفسد والتر حياته المهنية هناك في عاصمة الأمة. وقد واجه جيرانه القدامى صعوبة جمّة في المُصالحة بين ما ورد عنه في ” التايمز ” (“متعجرف”، ” مُستبدّ “، ” مشبوه إثنياً “) والمُستخدَم الكريم، المُبتسِم وصاحب الوجه الأحمر في شركة 3M الذي يتذكرون وهو يمتطي صهوة دراجته المعتادة على طول جادة سميت وسط ثلوج شهر شباط ؛ لقد بدا شيئاً غريباً أنْ يقع والتر، الغرّ أكثر من منظمة غرين بيس1 وذو الجذور الريفية، في المشاكل الآن بتهمة التستُّر على ممارسات صناعة الفحم وسوء معاملة أهالي الريف. ولكن مع ذلك، كان آل برغلند دائماً يتصفون بشيء غريب.

   كان والتر وباتي من الرواد الشبان في رامسي هيل – كانا أول خريجي جامعة يشتريان منزلاً في شارع باريير منذ أنْ مرّت سينت بول بأوقات عصيبة قبل ذلك بثلاثة عقود. لم يدفعا شيئاً مقابل منزلهما المبني على الطراز الفيكتوري ومن ثم أرهقا نفسيهما على مدى عشرة أعوام في تجديده. وقبل ذلك، اقتحم شخص مُصمم المرأب مُستخدماً ضوء بطارية مرتين واستولى على سيارتهما قبل أنْ يُعيدا بناء المرأب. واستقر ممتطو دراجات لوّحتهم أشعة الشمس في أرضهم الخالية على الجانب المقابل من الممر لكي يشربوا البيرة ويأكلوا السجق ويُديروا محركات دراجاتهم في الساعات الأولى من الصباح إلى أنْ خرجت باتي إليهم مرتدية سترة رياضية وقالت ” هيه، يا شباب، اسمعوني من فضلكم؟ “، وبدا أنَّ باتي لم تُخِف أياً منهم، لكنها كانت رياضية في المرحلة الثانوية وفي الجامعة وتتصف بشجاعة فارس. ومنذ اليوم الأول لانتقالها إلى الحي، كانت بارزة بصورة لا لبس فيها. كانت وهي تدفع أمامها عربة أطفال، ممشوقة القامة، شعرها مربوط على شكل ذيل حصان، وصغيرة السن بصورة سخيفة، مارة بالسيارات المفكّكة وزجاجات البيرة المكسرة والثلج القديم المغطى بالقيء، يمكن أنْ تحمل في الحقيبة الخيطيّة المُعلَّقة من عربة الأطفال ساعات نهارها كلها. خلفها ترى الاستعدادات الكثيرة الخاصة بالطفل من أجل مهام فترة الصباح الكثيرة الخاصة بالطفل، وأمامها فترة بعد ظهيرة للعمل في محطة الإذاعة العامة، و ” كتاب الطبخ الفضي للذواقة “، وحفاضات الأطفال، ومجمع سكني بجدران خفيفة، وطلاء لاتكس ؛ ومن ثم ” قمر النوم الهانئ “، ثم خمر زينفاندل. لقد مثّلت بصورة كاملة الشيء الذي بدأ يحدث لباقي سكان الشارع. 

   خلال السنوات السابقة، عندما كان في الإمكان قيادة سيارة فولفو 240 من دون الشعور بالخجل، كانت المهمة الجماعية في رامسي هيل هي أنْ تتعلَّم من جديد بعض مهارات الحياة التي فرّ منها والديك إلى الضواحي خصيصاً لكي يتملصا من إتقانها، على سبيل المثال كيف تُثير اهتمام رجال الشرطة المحليين بأداء عملهم بالنيابة عنهم، وكيف تحمي دراجة هوائية من لص متمرس، ومتى تزعج نفسك بطرد شخص سكير عن مرجك، وكيف تشجّع القطط الوحشية على التبرُّز في صندوق رمال أطفال شخص آخر، وكيف تُقرر ما إذا كانت المدرسة الرسمية سيئة إلى درجة ألا تحاول أنْ تُساهم في إصلاحها. وكان هناك المزيد من القضايا المُعاصِرة، مثل، ماذا عن حفاضات الطفل؟ أتستحق الاهتمام؟ أصحيح أنه لازال في استطاعتك أنْ تحصل على الحليب المعبَّأ بزجاجات؟ هل حركة الكشافة سليمة من الناحية السياسية؟ وهل البرغل ضروري حقاً؟ وأين يتم تدوير البطاريات؟ وكيف ينبغي أنْ تكون ردّة فعلك عندما تتّهمك امرأة فقيرة ملوِّنة بتدمير الحي؟ أحقاً أنَّ السطح الصقيل لأواني الطعام القديمة يحتوي مقداراً خطراً من مادة الرصاص؟ وكم ينبغي أنْ تكون نسبة دقّة مِرشحة المياه في المطبخ؟ هل رفضت سيارة 240 أحياناً أنْ تزيد سرعتها عندما ضغطتَ على زر زيادة السرعة؟ هل الأفضل تقديم الطعام المقلي، أم لا شيء؟ أمن الممكن تنشئة أطفال لامعين، سعداء، واثقين من أنفسهم بصورة غير مسبوقة وأنت تعمل بدوام كامل؟ أيمكن طحن بذور القهوة قبل استخدامها بليلة، أم ينبغي أنْ يحدث هذا في الصباح؟ هل مرَّ أحدٌ في تاريخ بلدة سينت بول بتجربة إيجابية مع بنّاء أسقف؟ وماذا عن ميكانيكي جيد لسيارة فولفو؟ هل سيارتك الـ 240 تواجه مشكلة في كابل مكبح الوقوف الدبق؟ ولوحة التحكم الغامضة تلك التي تُصدِر ذلك الصوت السويدي الممتع ولا يبدو أنها متصلة بأي شيء : ما هي؟ 

   للإجابة عن الأسئلة كلها، كانت باتي برغلند مرجعاً، حاملة مُتفائلة لغبار طلع الثقافة الاجتماعية، ونحلة أنيسة. كانت من الأمهات القلائل اللائي يلزمن المنزل في حي رامسي هيل ومن الشهيرات في كراهيتها لمدح نفسها أو لانتقاد أي شخص آخر. قالت إنها توقعت أنْ ” يُقطَع رأسها ” ذات يوم على يد إحدى النوافذ التي لم تبدّل سلسلة إطارها. ” لعلّ ” أطفالها يموتون متأثرين بالديدان الشعرية من لحم الخنزير الذي لم تطبخه جيداً. وتساءلت إنْ كان ” إدمانها ” الأبخرة التي تُطلقها المواد المُزيلة للدهان له صِلة بانقطاعها ” التام ” عن قراءة الكتب. وأسرّتْ بأنه ” مُحرَّم عليها ” أنْ تُلقِّح أزهار والتر بعد الذي حدث ” في المرة السابقة “. وكان هناك أناسٌ لم يُناسبهم أسلوبها في إنكار الذات – تبيَّنوا فيه نوعاً من التنازل، وكأنَّ باتي، بتضخيمها عيوبها الصغيرة، كانت تحاول بصورة جلية أكثر مما ينبغي أنْ تتجنب مشاعر ربات المنزل الأقلّ رسوخاً. لكنَّ غالبيّة الناس وجدوا تواضعها صادقاً أو على الأقلّ مُسلياً، وعلى أية حال كان من الصعب مقاومة امرأة يُولع بها أطفالك وتتذكَّر ليس فقط تواريخ أعياد مولدهم بل ومولدك، أيضاً، وتأتي إلى الباب الخلفي لمنزلك حاملة طبقاً من البسكويت أو ورق لعب أو بعض أزهار السوسن النضرة داخل مزهرية صغيرة من المتجر الاقتصادي وتطلب منك ألا تُعيديها.

   كان معروفاً أنَّ باتي نشأت وترعرعت في الشرق، في إحدى ضواحي مدينة نيويورك، وتلقّتْ إحدى أول المنح الدراسية الكاملة المُخصصة للنساء لكي تمارس لعبة كرة السلة في مينيسوتا حيث حقق فريقها، في عامها الثاني في الجامعة، وفقاً للرقعة المُثبَّتة على جدار غرفة مكتب والتر في المنزل، المرتبة الثانية على مستوى أميركا كلها. وثمة شيء غريب واحد تتصف به باتي، بالنظر إلى سِمة التكيُّف القوية مع الأوضاع التي تتميَّز بها عائلتها، وهو أنها لم تكن ترتبط بصِلة واضحة بجذورها. فتمر فصول بأكملها دون أنْ تطأ قدمها خارج مدينة سينت بول، ولم يكن واضحاً ما إذا كان أحد من الشرق، ولا حتى والديها، قام بزيارتها. وإذا استفسرنا صراحة عن والديها، تقول إنهما يقومان بكثير من أعمال الخير لصالح العديد من الناس، فوالدها يمارس المُحاماة في وايت بلينز، وأمها تعمل في السلك السياسي، نعم، في جمعية تشريعية نسائية في نيويورك. ثم تومئ برأسها مؤكّدة وتقول ” نعم، هذا ما يفعلان “، وكأنَّها استنزفت الموضوع.

   لم يكن سهلاً محاولة إقناع باتي بأنَّ سلوك أحدهم ” سيئاً “. فعندما قيل لها إنَّ سث وميري بولسن سيُقيمان حفلاً كبيراً بمناسبة عيد كل القديسين على شرف طفليهما التوأم وعمدا إلى دعوة كل طفل في المبنى باستثناء كوني موناهان، اكتفت باتي بالقول إنَّ هذا أمر ” غريب ” جداً. وعندما قابلت آل بولسن بعد ذلك في الشارع، شرحا لها السبب قائلين إنهما حاولا طوال فصل الصيف أنْ يُقنعا والدة كوني موناهان، كارول، بالكفّ عن رمي أعقاب السجائر من غرفة نومها إلى بركة الماء التي يخوض فيها توأمها الصغيران. وافقت باتي، وهي تهز رأسها استنكاراً، ” إنَّ هذا حقاً أمرٌ غريب. ولكن، في الواقع، الذنب ليس ذنب كوني “. لكنَّ آل بولسن رفضا أنْ يرضيا بكلمة ” غريب “، بل أرادا أنْ تصفه بالاضطراب العقلي، وبأنه عدائي سلبي، وبأنهما  سيئان. أرادا من باتي أنْ تنتقي أحد تلك النعوت وتنضم إليهما في تطبيقها على كارول موناهان، لكنَّ باتي كانت عاجزة عن الذهاب إلى أبعد من صفة ” غريب ”  وآل بولسن بدورهما رفضا أنْ يُضيفا كوني إلى لائحة المدعوين إلى زيارتهما. وقد غضبت باتي كثيراً بخصوص هذا الجور حتى أنها أخذت طفليها، بالإضافة إلى كوني وصديق من المدرسة، إلى مزرعة اليقطين وركوب عربة التبن بعد ظهيرة يوم الحفل، لكنَّ أسوأ ما قالت عن آل بولسن هو أنَّ سلوكهما الخسيس اتجاه فتاة صغيرة في السابعة لهو أمر غاية في الغرابة.

   كانت كارول موناهان الأم الوحيدة الأخرى في شارع باريير التي تتواجد في منزلها على غرار باتي. كانت قد جاءت إلى حي رامسي هيل  ضمن ما يمكن أنْ يوصَف ببرنامج تبادل الخدمات، بما أنها كانت سكرتيرة أحد أصحاب المناصب العليا في مقاطعة هينبين أبعدها عن منطقته بعد أنْ تسبّب في حملها. فمع نهاية حقبة السبعينيات، لم يعد هناك العديد من المدن التوأم  يُعتبَر فيها احتفاظ الرجل بأم ابنه غير الشرعي على جدول رواتب مكتبه أمراً مقبولاً بوجود حكومة جيدة. وأصبحت كارول واحدة من تلك الموظفات الشاردات، اللواتي يُكثرن من اللجوء إلى فترات الراحة في مكتب الإجازات في المدينة بينما على العكس يُعيَّن شخص آخر لا يقلّ عنها أهمية في علاقاته العامة في سينت بول عبر النهر. وكان من المفترض أنَّ منزلاً للإيجار كائناً في شارع باريير، مجاور لمنزل آل برغلند في الشارع نفسه من ضمن الصفقة ؛ وإلا كان صعباً فهم السبب الذي دفع كارول إلى الموافقة على العيش فيما كان لا يزال حينئذٍ حياً فقيراً وقذراً. ومرة كل أسبوع، في الصيف، كان يمر عليهم فتى بعينين غائرتين مرتدياً ثوب عمل فضفاضاً من باركس ديبارتمنت عند الغسق بسيارة دفع رباعي بلا علامة ويبدأ بجزّ مرجها، وفي الشتاء يأتي الفتى نفسه لكي يجرف الثلج عن الرصيف.  

_________________________________

[1]