حبكة
العدد 270 | 03 حزيران 2022
شكري الميدي أجي


 

أمام المخبز، قال المسن: “قبل خمس سنوات، قُتِل ابني في الشارع المقابل. زَحَف مسافةً، لكنه تلقى رصاصة في مؤخرة رأسه”. لوى شفتيه ثم تساءل عن ارتفاع أسعار الخبز. المشكلات تداخلت. هكذا فكر الكاتب كان يستمع للمسن. قتْل ابنه وسعر الخبز. أين البداية وأين النهاية. تنهَّد الأب وأخذ يشرح كيف وصل الأمر لهذا الحد. لا بد أنه جمع تفاصيل ما حدث من عشرات الأفواه. رفاق ابنه من الكتيبة 1984 التي رابطتْ في الحي زمن الحرب الأهلية. بينهم وبين العدو حي سكني منهار.

حدث كل شيء فجأة. كانوا يعانون نقصاً في الذخيرة. ظلوا يعانون قلة الامدادات طوال أشهر.  وفي هدأة الفجر، أحسوا بحركة مريبة وراء كومة المباني المنهارة. كتل معتمة. جنود على الأرجل بأسلحة خفيفة. ثوانٍ بعد اكتشافهم، اندلعت معركة شرسة. رصاص في كلِّ مكان. قُتل ابنه وسط تلك المعمعة. لاحقاً تحدَّث أحد رفاقه. لم يُقتل بسبب الهجوم، بل تمَّ اعدامه، لأنه قصَّرَ في المراقبة، قيل عنه خائن، فتمَّ اعدامه ميدانياً وبطريقة بشعة، بعد انسحاب القوات المهاجمة. لم يجد أحداً يؤكد ما حدث. المتحدِّث أنكر ونسب الأمر لسكره وإنه يعاني حالة من الجنون بسبب الحرب.

في البيت، دخل في حوارية مع زوجته حول أسعار الخبز، ثم تحدَّثا عن ابنة خالة زوجته. قدَّمت أموالاً لشركة مستحضرات التجميل تدعى جينيس. عملية معقدة من التعاملات الهرمية، لم يفهمها جيداً، لكنه أدرك إن ابنة خالة زوجته لم تقبض في مقابل ما صرفت أي نقود، وبحسب المعطيات التي أمامه، هي السبب في عدم التقاضي، بسبب كسلها في ترويج ما تمتلك من مواد تجميلية مستحيلة الترويج. ضحكتْ زوجته بتشفي. حماقة لمى بلا حدود. قالت هذا ثم نهضت لتعِدَّ الشاي. واستغرق هو في جهازه. بعد عدة منشورات فكاهية. شاهد فيديو لأب عراقي يروي قصة مقتَل ابنه الجندي في الموصل. قُتل برصاصة في مؤخرة رأسه، كان يزحف للنجاة عندما أطلق عليه العدو. ابتلع ريقه. البلدان في حالة فوضى. لا يمكن إعادة السيطرة إلا بحدوث إنهاك تام، مبرِّر للطغيان ودافع للقوى الامبريالية والديكتاتوريات المقنعة. إنها تماماً حالة الصفر.

في المقهى، أخبره صديقه، عادت علاقتهما بعد كتابه الثاني، بوضوح ما سمعه أكثر من مرة: “كتاباتك تنقُصها الحبكة، أنت تكتب شذرات نيتشوية وتخلق شخصية واحدة، تجعل لهذه الشذرات وجهة محددة، تسميها أنت بالرواية، فيصدِّقك قراؤك، هذا تافه صديقي، تافه”. المرة المئة التي يخبره فيها عن هذا، صدر كتابه منذ ثلاثة أشهر، قرأ عدة مقالات تذكر هذه النقطة: “كتابة بارعة، لكن تنقصها الحبكة الروائية، العنصر الحكائي الدرامي”. بدا هذا مضحكاً في البداية، تذكره غالباً بالقصة الساخرة التي أنجزها زوسكيند: “موهبة تنقصها العمق”. بالنسبة لصديقه فإن الكتابة كلها مدينة لهذا الاكتشاف السردي، حتى الكتب السياسية والعلمية، بدأت تستخدم نوعاً أصيلاً من الحبكات، لتقدم سردية صغرى مؤثرة.

قبل مدة التقى بكاتب مكرَّس، أخبره عن جودة كتابه الثاني، لكنه لم يكمل إلا الفصل الأول: “كتابك عبارة عن بوح”. قال هذه الكلمة بشيء من الاشمئزاز. بوح! رأى الأسنان القذرة، تلطخت الكلمة وكتابته بتلك القذارة الفموية. تجاهل تلك الصورة المؤذية. ترك الكاتب المكرَّس واقفاً وذهب إلى حيث ينعش روحه من الخبث. صديقه داخل المقهى، لا يزال يخبره عن الحبكات المختلفة، بل يحاضر أمامه عن الأدب العالمي. نجاح أو فشل أي كتاب متعلق بحبكته ومعماره السردي”. سحب نارجيلته ونفث دخاناً يغطي كثافة آرائه ثم ضرب مثله عن الرواية ناجحة.

“تخيل نفسك في قلب معركة محتدمة وأمامك جندي يزحف على بطنه هارباً ونسمع وقع خطوات خلفه، ظل ضخم وبعدها عدة اطلاقات في رأس الجندي الزاحف، عندها تروي كيف حدث كل هذا الجنون، أنت بحاجة إلى تسلسل مقنع ومشوِّق ومعقد. سيكون كتاباً بارعاً وفيلما أكثر روعة”. صمت صديقه وسحب من نارجليته، هدأ هو، فكَّر بعمق قليلاً وتساءل: “لماذا هذا المثل، هل تابعت ما حدث للشاب من الموصل؟”. صديقه لم يفهم المقصد.

في البيت، بينما يستمع لزوجته عن شركة جينيس، تذكر أن صديقه أخبره مرة: “يوماً ما سأتلاعب بك”. وفي لحظة أخرى تذكر أن منطقة المسن هي نفسها المنطقة السكنية الخاصة بزوجة صديقه.

حين التقى بالمسن أمام المخبز، سأله هل يصدف وأن تعرف عائلة “مشاتي” فهتف قائلاً: “جيراني منذ ثلاثين سنة”. لم تكن مفاجأة بل احساس بالانتصار، بالذكاء يلمع في كلِّ جسده. “المرحوم والدهم صديقي الحميم وكنت أود تزويج ابني بابنتهم، لكن القدر رسم أمراً آخر، قتل ابني”. عندها قال الكاتب ما يعرفه. البنت موعودة لزوجها الحالي منذ صغرها. لا. قال المسن. هي رفضته تماماً، أعرف هذا لأنها أخبرتني بنفسها، وكانت تريد ابني وتخرج معه بعلم والدتها. خطبة؟ تمتم الكاتب. شيء مثل هذا. قال المسن. تنهَّد. لم أكن موافقاً بسبب موقف أبيها. المحب لعرقه. ليتني ما اعترضت، التحق ابني بالجبهة بسبب هذا وهناك قُتِل. من الأشياء المبتذلة التي عرفها الكاتب بقليل من التساؤلات عن صديقه هو مشاركته في نفس الجبهة، لمدة أسبوع تقريباً، قبل أن يتركها فقد تمَّ طرده لسبب غامض، حين سأله ادعى الصديق أن تركه للكتيبة كان لخلاف حول سيارة غنموها عند انسحاب العدو. ما تذكره أحد رفاقه من الحي أنه عاد مبتهجاً وبعد أشهر تقدَّم لزوجته الحالية.

في المقهى، مع صديقه المستمتع باطلاق الدخان، فكر في كلِّ شيء. كان أمام نمط محدَّد لكلِّ الفوضى التي أخذت منه عدَّة أشهر، نمط وسط الفوضى، وأصبح قادراً على تأسيس نظرية. من بين ما لاحظ. صديقه مختلف تماماً عن الذي درس معه حتى الجامعة. التقى به مجدداً منذ سنتين، لدى نشر كتابه الأول، لكن علاقتهما توطدت أكثر مع نشر كتابه الثاني. في السابق كان أكثر براءة. أصبح نزاعاً للأذية بصوت منافق، تجاهله طويلاً، هل هو أمام منافق غادر ولا يمكن الوثوق فيه، كيف أصبح على هذا النحو، هل قتل الرجل لسلب امرأته ثم أخفى عليه هذا؟

أيُّ تفكير سخيف. طوال اليوم فكر في هذه النقطة. أحس باللاتوازن. واحدة من أقبح معضلاته، فهو لا يحاكم صديقه فحسب. بدأ يُحاكم كلَّ شيء من حوله، يعود لمقارعةِ شيطان تافهةٍ انتهى منها. تذكر شخصاً تشاجر معه منذ عشرين سنة. لا بد أنه مخطئ. ذلك الشخص لا يُخطئ. كلُّ شيء على المحك: الصداقة والإيمان والكتابة والحب. يفقد كلَّ شيء عاش لأجله. ببساطة يُسلب منه الأفضل. شيء بسيط، شيء بسيط، إنني أنتظم.

“ما بك؟”. سألته زوجته. تبدو شارداً. أين كنت طوال الصباح؟ في المقهى. وماذا تفعل هناك لوحدك؟ تساءلت زوجته. من أخبرك أنني لوحدي؟ لم تبال زوجته، بل سألته: ألم تكن لوحدك؟ صمت قليلاً وعاد يفكر بتشويش ويقرأ في مقالات ذاتية عن القلق وأمراض الكآبة حين قالت زوجته: “سمعتُ اليوم قصة غريبة عن رجل قتل غريمه في الحرب وتزوَّج بخطيبته، أتصدق حدوث هذا الغباء؟”.

* * * * *

خاص بأوكسجين

 


كاتب من ليبيا. صدر له في الرواية: "المكتباتي"" 2016، و""أسلوب جدي"" 2016، وله مشاركة في كتاب ""شمس على نوافذ مغلقة/ مختارات من أعمال الأدباء الليبيين الشباب"" 2017."