حبة قمح
العدد 147 | 09 آذار 2014
محمد رشو


حبة قمح

 

“ولكن كيف سأقنع الدجاج بأني لست حبة قمح …” قالها و بدأ كل من في الخيمة يضحك على الفور، ثم لقّم نكتة أخرى، فانتبهت ُ حينئذٍ إلى براعته في إلقاء النكات، ثم عدت وانشغلت بأوراق اللعب لأخمّن مع من “ختيار الكُبّة”.

كنا كما في أي يوم، نقضي أكثر من ثماني ساعات في فترة ما بعد التدريب، مرتدين الشورتات،  نفترش أرض الخيمة على بطانيات عسكرية، و نبدأ لعبة “التريكس”.

مال حسينو نحو الخلف معلناً “لن أربح و حق القرآن” ثم أردف بالكردية مازحاً : “من ده فينو ، ما دامت فخذاه أمامي سأخسر إلى الأبد”.

  حين حل بهاء في سريتنا، اتخذت الأمور مجرى آخر، فبهاء القادم من دمشق بخصره النحيل و عيونه المائلة للإخضرار، وجسمه الأبيض الخالي سوى من زغب أشقر خفيف. قال عنه حسينو أول ما رآه : 

العمى، سلاف فواخرجي بس صبي.

 تقرّب إليه الميسورون من أفراد السرية الذين كانوا يغادرون كل خميس إلى مصياف ويمتطون الدراجات النارية خلف قوادين يصطادونهم من الكراج، فيما رأى الدراويش في هيئته خلاصاً إلهياً من القرف الذي يستعيدونه، كلما أعتلوا الحمارة المقطوعة الذيل التي ترعى شاردة جنوب الكتيبة.

محمود الذي كان يبيع الكولا والسردين والمرتديلا والدخان إضافة لأفلام البورنو وحبوب الفياغرا والحشيش، كان يخلي له المقعد الصغير بجانبه في كشك التوتياء الذي يديره. أما الرقيب كمال فقال: 

رجّعني لأيام جامعة حلب، حين أصافح يده، ينتصب معي.

صوته فحسب كان صوت رجل، بل الرجل فيه صوته، فحين يصمت يهيمن جماله على من حوله، أما حين يتكلم فيبقى جماله ولا يتبدد، لكنه يتخذ هيئة دروع من الفولاذ تحميه، تنفر الآخرين وتجذبهم في آن معاً، كان داهية، وحين كنا نلعب الورق كان يحسب كل الأوراق التي نزلت، والباقية في اليد.

قلائل عرفوا أنه كان وحيداً قدر ما كان جميلاً، و هو كان يعرف كم هو جميل و لكنه يجهل كم هو وحيد، و في فجر يوم الأحد قبيل عيد الأضحى و بينما كانت مصياف تختفي في عتمة ترق شيئاً فشيئاً، لم يكن قد نام بعد، حلق كالعادة ذقنه الخفيفة على ضوء لمبة صغيرة، ارتدى ملابسه استعداداً لنوبة الحراسة التالية، جثا على ركبة ونصف، شدّ رباط “بوطه”، ثم تناول بارودته، لكنه بدل أن يرفعها إلى الكتف، أسند أخمصها على الأرض، وضع فوهتها المعدنية في فمه عامودياً على قبة الحنك، و فعل ما يمكن لأي وحيدٍ أن يفعله. 

***

 

فليكن إسمها : فيرونيكا

في حانةٍ يرتادها المثليون ببرلين، كان جالساً إلى البار على كرسي عالٍ لا مسند له حين اقتربت منه فيرونيكا، وحطّت يدها على ركبته.

(اقتربت من الرجل الخطأ، و قامت بالحركة الخطأ : اليد على الركبة)

أعرفه شخصياً ،

كان يابانياً، و حين كان يلطّش عليه الأطفال و نحن نمشي في “الأشرفية” : صيني صيني ، كان يرد: أنت صيني!

كان لمّاحاً وذا ذاكرة حديدية، أذكر في “السريان القديمة” حين شغّل هوزان (night divides the day)  ولم تمض سوى ثوان حتى قام من مقعده وقال كأنما يوحى له: جورج وينستون .

تزوج أخوه من امرأة كورية و تركه وحيداً مع أبيه الوحيد الذي يعاني من إكتئاب مزمن ونوبات بكاء من دون سبب.

نظيف ودقيق في مواعيده و مفرداته، و ككل اليابانيين، يطهو “السوشي”، و يتسلى بالأوريغامي ويصنع البجع من الورق .

قضى معنا أربع سنوات، كنا نتفاهم بقليل من عربيته وقليل من إنكليزيتي، و “سباس وحزدكم” من الكوردية ، ليعود إلينا في شتاء لاحق و يعترف بينما نحن جالسون أمام قلعة حلب:

أنا رجل لكن لي قلب إمرأة.

أما فيرونيكا فقد التقيتها في دار الكتب الوطنية حين كنت أقرأ سركون بولص بنهم، جلست بجانبي و حطت يدها على ركبتين 

فيرونيكا ابنة المعصية التي لا تكبر، كانت ساحرة من نوع ما، 

و حسب ما يذكر سركون كانت لها أريكة،

أريكة عادية

لكنها

بطقطقة واحدة 

تنفتح 

 و

 تنقلب إلى سرير. 

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من سورية. من مجموعاته الشعرية: "انتظر الهواء لأمر بك"" 2001 و""عين رطبة"" 2005rn"