جنة اللاطمأنينة وجحيمها
العدد 166 | 10 شباط 2015
أشرف العناني


قبل سنوات ليست بالبعيدة جداً كنت أسمع بأذني وأرى بعيني ما يقوله ويكتبه العابرون عن سيناء، عن دهشتهم أمام المناظر الخلابة التي تخطف الروح وتغسل الحضور الإنساني، الصحراء التي هي صحراء، البحر، السماء التي هي سماء، لم أكن أتحفظ على تلك الدهشة، هي حق طبيعي للهاربين من عجلة المدنية الطاحنة التي تدهس بلا رحمة، إلى لحظة صفاء تسرقهم من لهاثهم، فقط كنت أسأل نفسي دون صوت: ماذا إذن لو لمسوا بأجنحة أرواحهم المياه الجوفية للمكان بتعبير صاحب ورد النيل ومالك الليل الحزين؟ هل كانت نظرتهم ستظل هكذا مستسلمة لذلك السطح الهادئ الناعم؟ أم سريعاً ما ستتكشف لأقدامهم خرائط لحقول ألغام لا تبدأ كي تنتهي، ولكن كي تستمر من شرم الشيخ إلى سعسع!

الذين يعيشون هنا تتجاوز علاقتهم بالمكان الدهشة إلى المصير، هو مصيرهم، مربع وجودهم، وهم أسماكه التي لا تحتمل مغادرة الماء، لكنهم يعرفون تلك الخرائط عن ظهر قلب، يعرفون أين ينبغي للقدم أن تحاذر، و أين للقلب أن يحترس. أن تعيش في سيناء وتصير هي جزء منك وأنت جزء منها لا يعني أن تلبس الزي التقليدي وتضع “العقدة والمرير” فوق رأسك مثلما يفعل بعضهم وهو يتجهم للكاميرا أو يشد بأريحية على يد مسؤول، ثمة شروط أخرى أهمها أن تعرف خرائط اللاطمأنينة التي هي الجنة لمن يعرفها والجحيم لمن يجهلها. 

بحذر يتحرك الكائن هنا، ثمة حجارة لا حصر لها جاهزة كي تصبح حجارة عثرة، هي نفسها ستصبح جسراً لتعبر فوقه بشرط أن تعي وتفهم وأهم من ذلك تحترس، الواقع هنا معقد، سيقول لك البعض، القبلية و العادات والتقاليد سيقول آخرون، التشدد الديني سيقول غيرهم عن المتغير الجديد، جميعهم على حق ولكن هل هذا كل شيء؟؟ بالطبع لا. 

في مصر سيناء ليست مكاناً استثنائياً تعيش فيه الثقافة الصحراوية العربية بعاداتها وتقاليدها التي تبدو للأغيار صارمة وطاردة، في مطروح والواحات والبحر الأحمر وعلى حدود السودان، بل حتى في أرياف مصر في الفيوم والبحيرة ومناطق أخرى تعيش نفس الثقافة، فما الذي يميز سيناء إذن؟؟ إنه قلق الجسور، قلق البوابات التي تصفعها الريح على الدوام، لا تفتح ولا تنغلق، في حركة تاريخية دائبة، هي حالة اللاطمأنينة التي تتلبس المكان ويعرفها أهلها كما يعرفون أسماء ابنائهم، سيقول لك بعضهم لكن 1973 كانت اّخر الحروب وقد مضي علىها ما يقرب من أربعين عاماً !! نعم هي اّخر الحروب ومضي عليها أربعين عاماً لكنها لم تنته بعد، هذا الغليان الذي يتواصل كل يوم هو حصة أساسية من حصص اللاطمأنينة وثيقة الصلة. 

أن تعيش في سيناء فهذا يعني أنك ابن هذه اللاطمأنينة، ابن القلق، ابن التوجس، ابن الخطوة المسكونة بحذر صحراوي يعرف أن عادة الرياح هي أن تأتي بما لا تشتهي السفن، إذا كنت تنتمي لهذا المكان بصلة الولادة فإنك سترث هذا في جيناتك، لن تبذل مجهوداً يذكر لتتآلف وتعرف وتفهم وتصبح تلك اللاطمأنينة جنتك، أما إذا شاءت الصدفة وساقتك الظروف فعليكَ أن تبذل مجهوداً ليس باليسير على مثلك أن يتكبده، قد تفلح فقط لو أنصت، ولم تتعجل، لم تتحرك بقدم الواثق المغمض العينين، شفرة روحك عليها أن تظل هكذا مشحوذة، وشيئاً فشيئاً ستقترب من اللاطمأنينة لتأخذ من عنقها سلسلة المفاتيح دون أن تتذمر. 

على هذا الحال يعيش أبناء المكان، ماذا إذن لو أضافت الحياة عليك عبئاً إضافياً وأصابت روحك عدوى الكتابة؟؟ منذ سنوات بعيدة أتم صديقي روايته الفاتنة، أذكر قضينا العديد والعديد من الليالي وبالحماس نفسه نتحاور حول الزمن الروائي، حول شخصيات الرواية، حول التفاصيل وتفاصيل التفاصيل،حتى اكتملت ليحدثني عن ما لم يكن مفاجئاً لي، قراره بعدم النشر، إنها اللاطمأنينة في أحد وجوهها المتجهمة. قلت كمحاولة أعرف أنها مجرد ضمادة لجرح قديم لا يمكن تجميله : ماذا لو نشرتها في الخارج بإسم مستعار؟؟ لم يرد، أنا الاّخر اكتفيت بتلك الجملة التي لم يتعد دافعها أن يكون محاولة للسلوان. 

وحده المجاز/ خِباء المعنى يفعل ما عليه، يستر روحك ويقيها شرور اللاطمأنينة، هل لهذا السبب يتزايد عدد الشعراء هنا في سيناء ويتراجع عدد من يقفون على أعتاب أشكال أخرى من الكتابة يتراجع فيها المجاز لتنكشف الروح وتتعرى؟؟ ربما، لكن ما أنا على يقين منه هو أن اللاطمأنينة في حالتنا هذه عدوانية بشكل لا يقارن. 

_______________________________

كاتب من مصر ashrafanany@hotmail.com

من كتاب بعنوان “سيناء حيث أنا – سنوات التيه” يصدر قريباً عن “الكتب خان” في القاهرة.

اللوحة للتشكيلي الروسي Igor Moniava

*****

خاص بأوكسجين