\”جنة البرابرة\”.. قراءة غير نقدية
العدد 164 | 31 كانون الأول 2014
يعرب البهلول


وكأنه ينتظرها، هكذا يقف خليل صويلح مراقباً رشقة رصاص أعمى انطلقت عبر بندقية مارق أرعن، باتجاه طاولته التي تقع عند مدخل الصالة على الجهة اليمنى في مقهى الروضة، دون أن يجد ما يحتمي به منها سوى قلمه وبضعة كلمات… 

صمت ثقيل وثوان كأنها الدهر مرت، قبل أن يصحو ليتلمس جسده بمنتهى الجدية باحثاً عن ثقوب الرصاص التي وسمها شروده القصير، ليتدارك الموقف بابتسامة تغازل الحياة وتركنُ إلى مفاتيح كمبيوتره الشخصي “جنةً” لبرابرة ينهبون ولا يُنهبون، يدمرون ولا يُدمرون، يغتالون ولا يُغتالون، يقتلون ولا يُقتلون، منذ الأزل ومنذ الغزوات الأولى حين أينعت الرؤوس وجدعت الأنوف وقصت الألسنة وثكلت الأمهات.

مستعيداً في ذاكرته ما قاله كفافيس “في انتظار البرابرة” وكيف تبرج القوم وتأنقوا واستعدوا مرتدين أجمل ملابسهم، وهم ينتظرون بقلق وترقب، مجيء البرابرة:

لماذا ظهرَ قناصلنا والقضاة / بأقبائهم الحمر وأقبائهم المزركشة؟

لماذا لبسوا أساورَ مرصعة بالجواهر، والحجارة الكريمة، / وخواتم الزمرد البراق؟

ولماذا يمسكون فرحِين بصولجاناتهم / المشغولة بالفضة والذهب؟

لأن البرابرة يصلون اليوم… 

 

يخيفه المشهد، يتراجع ملتفتاً بهلع، باحثاً عن نادل المقهى ليسدد ثمن قهوته التي عبقت برائحة الدم في أصابعه، وقبل أن يعيد له الفكة، كان قد انطلق مسرعاً متفحصاً المارة، قارئاً لغة أجسادهم عله يكتشف قاتله بين حناياها، مستنطقاً الوجوه التي باتت تخلع أقنعتها وأنسنتها لترفض الآخر أَنَّى كان وأَنَّى قال، كاشفة عن عنف ووحشية تُنذران بالخراب القادم.

متعرجاً إلى منزله عبر طرق ملتوية وأزقة حفظ حجارة جدرانها وأرصفتها، واحدةً واحدة، مكتفياً بلمس أسطحها الدافئة بأصابعه وكأنها حبيبته وكأنه سِيزِيفُها، متجنباً الخوض في طريقه أية نازلات دونكيخوتية على الحواجز المنتشرة في الأرجاء أو مع ظلال الحوامات والقذائف المتهاوية عبثاً في كل مكان، أو مع اسماء انتعلت البديهيات لتغسل آثامها وعارها، حقدها وجنونها، خلعت روحها أخيراً على الملأ وارتدت حرير السلاطين، قافزة إلى الضفة الأخرى بأثوابها الجديدة، متقمصةً العنف والاضطهاد لتعيد إنتاج القمع على شاكلتها.

متجاوزاً ثقل السلالم حيث يسكن في الطبقة الأخيرة، يحمل صويلح في حقيبته لتر ويسكي مغشوش لينادم به، ابن عساكر وأبو حيان التوحيدي وحلاق دمشق شهاب الدين أحمد بن البديري الحلّاق، مزاوجاً ومقارباً بين لحظتين تاريخيتين تبعدان في الزمن وتقتربان بالوجع، في حوادث دمشق الثكلى.

هكذا على طاولته، ربما المتكئة على جدار بارد، يتابع صويلح التملق لمفاتيح كمبيوتره على أنها ريشته ومداده الذي يكتب بهما وجعه لا “جنة البرابرة” متلمساً سطحها، كما يتلمس أضلُعَ جثته بائع الشاي الممدد تحت ثقل الحافلة لأشهر، مستنشقاً رائحة العفن الصادر عنها بعينين مفتوحتين على العدم. ماداً بصره بين الفنية والأخرى عبر نافذته ليتأكد من عدم وجود أي قناص يترصده من الأسطح المجاورة؛ مبدلاً في كل مرة جلسته وكرسيه كطريدة برية تعشق صهوات الجبال، وتَشّتمُ رائحة الموت، ظاناً أنه بذلك يُفوتُ عليه إمكانية اصطياده “بسهولة”، ولربما أيضاً اجتاحت رأسه المليء بالأبالسة، فكرة أن يقوم بطلاء نافذته الوحيدة؛ أو حتى إغلاقها بشكل نهائي، أو تحويلها لمتراس، ولكنه لا يلبس أن ينتفض من قبح الفكرة.

يشعل لفافة تبغه ويعود إلى لوحة المفاتيح في كمبيوتره، متجاهلاً بربرية الحياة وسعار القتل والحقد الأعمى الذي اجتاح الجميع، عبر مواعيد غرامية عابرة، تلقي بدفئها بعضاً مما يستحق الحياة.

يناديه الوجع فيحاول صويلح نقله بكلماته، غير عابئ بالسردية الكلاسيكية أو الأنماط المعلبة الجاهزة، أو حتى بالبلاغة الأدبية، حيث تطغى قسوة الواقع على الكلام المنمق، وحيث يتوجب على النص أن ينعتق من أشكاله التقليدية المعروفة، لتتمكن اللغة من الانفلات من عقالها كما العقل والعقلانية في المشهد السوري، باحثاً في محاولة يائسة، عن مفردات جديدة “تتشظى” لتعيد إنتاج هوية جديدة تليق بحفلة الدم -كما هو الحال حقيقة- لتنقل رائحة العفن عينها، ومشهد الخراب ذاته. غير مكترث بتصنيف نصه هذا، الذي يحاكي الموتى، لا الموت. 

فبينما يتسارع نبض المؤشر بغضب تحت وقع ضربات أصابعه المتوترة على شاشة صاحب “سيأتيك الغزال”، تنساب الكلمات على الصفحات البيضاء مسجلة كما يراه وكما يسمعه، دون أي تكلف أو زيف أدبي مصطنع، حيث يتذكر عبر سرد أحداثه اليومية تفاصيل الشوارع العتيقة التي تفوح بعبق التاريخ وذكراه، متجاهلاً مناداة زوجته التي ملت دعوته إلى مائدة العشاء.

لا يبحث صويلح عن جملة رشيقة مخاتلة، تذهل النقاد وعباقرة الأدب، فهو يكتب مستعجلاً غير عابئ بإعادة قراءة نصوصه أو تقييمها وتقليمها، ولربما رافضاً ذلك عن عمد كي لا يجتاحه الألم عينه من جديد… فهو كان يكتب نصوص يومياته لا ليشكلها عملاً فنياً، وإنما ليهرب من الموت بها، وليعلن استمراره في الحياة رغماً عن كل ما يحدث. ولا يحاول في نصه هذا التمايز عمن رحلوا، عبر قذيفة عابرة تضعه في حقيبة سفر فارغة إلا من وجعه، حيث رائحة الدم والخوف تسبق ذلك المؤشر اللعين الذي يقوم برصف الأحرف على شاشته… ولا يبحث عن إظهار قدراته وأدواته في تطويع التحقيق الصحفي ودمجه في عمل قصصي، مفتوح على الدنيا كوثيقة تبصق في وجوهنا وجوه أبنائنا وأحفادنا وذريتنا جميعا. 

ولكن، أعتقد أنه كان يبحث -وخلافاً لم يوحيه العنوان- عما يغطي به عينا جثة مفتوحة على العدم والنسيان ملقاة على رصيف ما، تنتظر من يهدهد الرعب فيهما، ويغلقهما على أرض هجرت ترابها. 

__________________________________________

صدرت رواية “جنة البرابرة” 2014 للكاتب السوري خليل صويلح عن دار العين في القاهرة

 

الصورة من أعمال التشكيلي الفرنسي جورج رووه (1871 – 1958م)

*****

خاص بأوكسجين