جسد المسيح
العدد 202 | 10 تشرين الثاني 2016
عصام عابدين


بت أشعرُ لا شيء! منذ أن قتلتُ نفسي، ونزفت من روحي ودموعي، وأنا جسدٌ ضامر، يجيدُ التخبط في الطرقات، يحبُ بكل رومنسيةٍ، ولا يملكُ بين جوانحه من الحب فراشة، أقول لنفسي: أنا هو الذي هو.  لستُ في حاجة إلى أي شعور، يكفيني أنني أعرفُ، أكون، ولا أملك الحق في الحزن علماً كنت.

إن جرى الحب فوق زمانٍ، أثقله، وإن جرى الموت، سبق الزمان. هكذا فندتُ أيامي، أنا أجيدُ التفنيد والتفكير ولعب الكرة. هكذا يقولون عني. حينما أدركني الوعي، في قسم السموم من مشفى أقل من المتواضع، كان فراشي، ولسوءِ حظي، بجوار نافذةٍ مفتوحة على مصراعيها، بعد الأصيل الأخير بهنيهة، يتدفق نورٌ أبيض، نقيٌ من المشمشيّ، يخففُ زرقة السماء الداكنة، هذا الأزرق هو أنا، الذي مات بعقاقيرٍ سممتهُ منذ ساعات. من فوق سريري أهيمُ كالأطفال “كم هي جميلة تلك السماء” أرتد بنظري وتنسحب ابتسامتي معي، حين تدرك إفريز النافذة وملاءات المشفى وأصوات الأطباء بالخارج، كأن عائل أحد المرضى يتشاجر لأجل موته بالجوار! حزنٌ وأسى، أحسُّ برائحتهم تتسرب ما بين كلمةٍ و أخرى. أحسُّ! وياللتعاسة، مازلت قيد الوجود، وروحي قد أعدمت.

لا يزالُ هناك بين أجفاني، بضع قطراتٍ من ألم، بكيتُ خوفاً وانغلقت على نفسي بعيداً عن وسادتهم المريحة لحظياً. الزمان قد تلوى على نفسه وتمادى في لوعته، أدرك فتراتٍ كلحظات، فاتتني ساعاتٌ كاملات في الماضي، كما فاتني مستقبلي والحاضر. الطبيب على حين غرة، يصرّح بخروجي، ابتسامةُ أخي الكبير توجعني. قد كان قيد أنملةٍ من الفراغ، إلا أني سبقته، فرأى جنازته، قد شيعت على ترانيم بكائه الخريفي.

أعدتُ بناء نفسي، ثكلت بقايا الإنسان الميت بداخلي، دفنته مع رغباتي في صندوقي الأزرق. صرتُ حذاءً بنياً بالياً في شوارع المدينة، يفرقع في الأرض مفصحاً عن غيابي. أنا الحذاء البالي من وعثاء الحياة. تركت للحياة جسد تهلكه، وغرتُ في صندوقٍ من اللازورد، مثكولاً من الأنام.

لا محيص عن عمل، دعك من الفن، يحتاج موتاً كي يُنجز، والطعامُ بعد أن يأتي لن يشفيكَ من موتٍ. أصبحتُ أبيع كتباً ” خذ يا سيدي هذا الشيء جيد” وهذه صاحبة العباءة واسعة السواد “لدي هنا شيءٌ عن الطبخ وآخر عن الدين… ها هو تفضلي” في إحدى اللحظات تخيلت شخصاً يبتاعني، ربما كان طويل بمعطف أسود تحت الركبة “كم سعرك يا فتى؟” إن أتى سوف أصرخ في وجهه وأطرده، وكم كنت أخاف أن يأتي، غمرني القلق لدهرٍ من الزمان، حينما مرّ معطفٌ طويل في ليلة شتوية، خفتُ حتى الاختباء، وارتعدتُ ليلتها في فراشي قبل أن أغفو.

إن قصتي متآكلة متهالكة، كذاكرتي، تتمايل وتتأرجح على مطاطٍ قاتم كحياتي، و قالبها به بعض الاعوجاج، ينخرهُ الصدأ من الزوايا، ومادته لدنه مازلت أتموج عند نزفها جرعةً إثر جرعة. لكنني مازلتُ ساعٍ إلى التذكر وبشئ من الدقة. بعد موتي ببضعة أشهر، قابلتُ فتاةً ميتة. كانت مريم و هي حائرة على الدوام بين كتاب وآخر. تركتُ مقعدي القصير، و جهشتُ أمارسُ وظيفتي:

“هذا جيد . وهذا أيضاً؟ أ تبحثين عن شيء معين؟”

التقطتْ كتاب “البومة العمياء” وظلت تتساءل حول الاسم. سكتُ وضحكتُ ولم أنبس بزفرةٍ من الحقيقة، حتى حانت لحظة البوح، فشرحتُ لها الأمر بعد شهرين في مقهى متواضع بحيٍ شعبي. لم يكن بها هي شيء من تكلف. في الخريف لمستُ يدها الباردة، أعجبها دفء أصابعي، قلتُ “أنا أريدك . . ولا أعرف السبب” لستُ أشعرُ شيئاً، بداخل الكأس فراغ و أشرتُ بإصبعي تجاه كوبٍ من الماء كان فارغاً.

كيف يسعدُ ميتٌ بميتة! ما سمعت بحبٍ في مقبرة من قبل، تَركت يديها بين أصابعي، وقلبي بين فخذيها يميلُ دونما غائية ذات معنى. اضطجعت بجوارها على الفراش أنفثُ دخان سجائري المتثاقل فوق صدري، قالت لي “لا يجب أن تحزن . . ليس لديك الحق في ذلك حتى..”

ادفع وجرّ سلسلة الزمن المغبّر بالركود، بِع الكتب، تحرّك في الوجود بغير غاية إلى حيث المكان غير المحدد، كي تظل تتحرك، واحذر إن توقفت أن تتجمد جوعاً. أو تبتلعك مشاعرك. هكذا أقول لنفسي حين يباغتني شعورٌ صوب زهرةٍ تحتضر! أو موجة سحبها البحرُ الواسع إلى داخله وابتلعها وسوف لن يرجعها! هكذا أسير بطريقٍ في نهايته لا شيء مهم. أسير حتى نهايتي على إحدى ضفتيه.

*****

خاص بأوكسجين