ترامب في الجامعة الأردنية
العدد 214 | 13 حزيران 2017
سلام أبو اسحاق


إن حياة نور الآن هي فترات متقطعة بين اليقظة والحلم، تقف بوجه متزن في شارع مرتفع، كتفت يداها، أخذت هيئة مستاءة، تقف بين مبنى الأعمال الأول والثاني، تقف على الصراط المستقيم هناك، وكلما رأت وجهًا تعرفه، ذهبت لتدعوه للتصويت لجهة حزبية تؤيدها في الانتخابات،  تقول: “صوت عصوت بنجح اللي بدنا ياه”. ترى الآخرين أدوات ممكنة لتحقيق هذا الحلم الذي هو ثوانٍ قليلة  من “تطبيلة” الفائز وقطعة من الكنافة الدبقة ، كما هو الآن “الصوت عصوت” دبق سماعي أمام مباني الأعمال بسبب ضجة الشجارات الطلابية التي تحصل بين الفينة والآخرى بشكل منتظم تقريباً، تجعل مداخل الكلية قنبلة متفجرة، حيث كلما افتعلت واحدة  تشد نور ملامحها وتشاهد بترقب حتى تنتهي، فيهدأ قلقها و تأخذ نفساً واضحاً لتكمل نقاشاتها. كل هذا يحصل مع أن الفرز التجريبي حدد الفائز مسبقاً، لكن التقلبات الأخيرة التي تحصل في هذه اللحظة مع الآخرين تؤكد لها فوز من تود. كان مطلوب منها أن تمسك كل الإحتمالات؛ الكلام، الكلام، تجلس لترتاح قليلاً على عتبة حجرية ثم تعود للوقوف، تفكر و تنظر لما يجري، سيمر اليوم، وتعود نور  للبيت، ستنطفئ هذه القنبلة  في عقلها عندما تستعد لنوم، لن تتذكر غداً هذه الثواني من القلق التي تبدأ في العالم وتنتهي في عقلها، فلا تعنيها هذه الانفجارات البدائية، المؤلمة بين البشر فيبدون أصواتاً ذهنية، مجرد احتكاك.

هذه هي المرة الثالثة  التي تساهم فيها نور في الانتخابات الجامعية. اقتربت منها مشاجرة مصدرها شجار في المبنى الأول، تتحسر على التخلف، تتقلب، تسير بلحن بطيء متقطع كما النمر الوردي حين يسرق أو يختبئ “صوت عصوت”،  أوركسترا تحطم المكان، حفيف الشجر، كأن ضحكة ساخرة تنظر لضجيجنا باحتراف، وساعة الأعمال تشير إلى التاسعة والنصف صباحاً ونور على استعدادها، خبأت حقيبتها في حال حدث شيء. هي (بين نارين )  في الجامعة، تسير وتفكر، مطلوب منها أن تكون هكذا، جلبابها كان ضيقًا قليلاً من الخصر، يتيح لها حركات قليلة، كأن تمشي بلحن واحد. الجلباب جعلها تترنم بحياء فضولي، أظهرها متزنة، وإن صار صغيراً عليها بلونه الأسود الواسع عند القدمين، وحين يمر الهواء  تشعر بالجلباب يرتفع أكثر والأرض تسحبه بثقل، تترقب من داخله وتحبه! ستنطفئ هذه القنبلة ببهوت كوميدي، ستتذكر منها فقط لحنها الوحيد المضبوط في هذه الحركة .

مرت من أمامنا مظاهرة “مسيسة” من فئة أخرى، ضحك وتدخين، ادعاء الغضب والصراخ.  لا يجب أن تجري الأمور بسهولة، عليهم أن يتشاجروا لضبط نغمة التقلبات الأخيرة، هم أيضاً “صوت عصوت”  يبدون كحبات خرز تم رميها من مرتفع، إنهم  نقاط، تسقط، وتتخبط ببعضها في السقوط، متناثرة في  شجار وعراكٍ بين الخرزات، “صوت عصوت”  كأنهم مسبحة قطع خيط وانتهى استغفارها، وليختفي شكلها الدائري العادل من دون زوايا  أو وجهات نظر، شكل دائري عادل من فوضى  هذه الانتخابات.

خبأت نور حقيبتها معي، أرجعتها إليها في العاشرة.  كان علي الذهاب لأصوّت، هززت رأسي، وقلت لها : “احكيلي لمين أصوّت؟”

أخبرتني عن اسم أحدهم، الاسم المتفق عليه.  ثم بررت اختيارها: برنامج، أناس يعرفون ما يفعلون وآخرون فقط للاستعراض. ثم سخرت من الشعارات بالطريقة التي بها تسخف الأشياء لطبيعتها قالت: “أنقذ وطنك” ..”كن أنت العمل” مع أن مرشحها كتب بنفس الأسلوب هذه الشعارات، كانت وقتها كلها عادية، لكن حدوث إمكانيات للتمجيد والسخرية أصبحت أمراً سهلاً، بكلمة يصبح الأمر لا يعني شيئاً.

 

أتت حنين، كانت تقوم بما تقوم به نور لكن بحماس أكبر، خطط ودهاء. تقول: “لا تخذلني! أنا أعتمد عليك! أنت تساهم بالحقيقة.. برفع مستوى شيء في الفضاء”، تعطيك باجات وتقول: “بدك باجة خذي باجة”، تشعرك بالمسؤولية لأنها تجتهد في عملها، فتشعر بالعار إذا كان لا يعنيك أن تكون مع فئة ما، لأنك تقوم باليأس مسبقاً وتجعله خندقًا تحتمي به من هذه العجرفة الديمقراطية، كانت تشعرك بما يحدث، تشعرك بالحروب، بلعبة الأعداء والضحايا، والانتصارات، بالمصير المرتبط باللحظة الأخيرة للعملية، عملية متفائلة من زرع عضو حي  في جسم ميت حتى يحييه، لتكتشف في النهاية أن الأشياء كلها تثير اليأس، لكنني كنت قد وافقت على التصويت لأجلها، كانت تعيد هذا الحوار كلما قابلتها منذ شهر. عندما وافقت، حركت رأسها كأنها حصلت على هدية، اكتشفت معها أنني أستطيع بيع نفسي إذا ما بدلت صوتي، شعرت أنه أكبر مما يحويه بكامل بحته المزعجة، وأن ابن سينا حين قال عن الأصوات إنها تعبير عن الأحداث فكأنه كان يشير إلى قصص أخرى خلف هذه الحناجر الجامدة فينا.  أشعر اليوم أنهم  يحتاجون روحي لا صوتي، ولم يكن يعنيني الأمر، لذا بعته للعشوائية، فالتعقيد في علاقات السلطة لهذه الانتخابات أسوأ حتى من بيعه لشيطان فاوست .

اخبرتني حنين وقتها عن منافسة غير شريفة، سألتها “حسناً إذاً قرري عني، من تودين ؟” قالت: “الأول سالم، صوّتي له، الثاني أدهم .. حكتلك عنه ..غيرنا رأينا لا تصوتيله : خاطبت من حولي وأكملت : “منحس إنو أدهم راح يغدر فينا، كنا معتمدين عليه بس …. “

قاطعتها وقلت : “طيب، الصوت الثاني لمين غير أدهم”

“لا بس لشخص واحد، سالم وبس ، عشان نضمنك “

أصبحت لها مضمونة كما قالت، حتى لو لم أصوت أو استخدم صوتي الآخر، فإن صمتي مفيد لهم .

وقفت على باب الكلية. ثلاثة أشخاص يقنعوني بتغيير رأيي، قالت أسماء: ” كأنهم يبيعون كوسا أو بطاطا سرية” ، أقول: “طيب، طيب” وأحاول جاهدة أن أبدو مقنعة، فمن المضحك أني أنا من يجب عليه اقناع الآخر هنا! لدرجة تداخل الأصوات في رأسي، أصبحت مصابة بذهانية صوتية، سأنام في الليل، وتظل تأمرني الأصوات، حيث التعليمات من الجميع، ثم حصل شجار ما فهربت، شاب أعادني لباب الكلية، كنت أتحجج أني لا اعرف من يود أن أصوت له، أراني وجه صديقه  وقال: “صوتيلو،  شوفي أشقر حلو وبجنن كل البنات بيتمنونه” وضحك! هززت رأسي وتخلصت منه، ثم عدت لحنين لأحتج بالتعب. الشجار المفتعل بين الشابين، يأخذ شكل رقصة تانجو سريعة، كانوا يتنقلون من منطقة لآخرى قريباً مني، رقص ولحن وبكاء وصراخ. إن صوتي مهم جداً لهم، حتى لو كان همسة يفيد، أو صراخاً هلعاً لا يهم،  يحتاجون له لهذه الدرجة، لو كان حتى شهقة أخيرة. أعادتني حنين إلى الباب مرة أخرى بقوة، هي والشاب الذي وعدته بالتصويت، لي صوتان مزيفان، لو أنهم قالوا لي أن أصوّت الآن لترامب من قسم المحاسبة  لوافقت على ذلك .

لم يكن هناك غيري  في قاعة الإنتخابات، لم أنتبه لمن يجلسون في الأخير، للمرشحين، وللجان القوائم  الصفرية، كنت قد سمعت عنهم، حيث يضعون أنفسهم فقط للمراقبة والتمحيص، المراقبون والأساتذة يجلسون بقلق خلف الطاولة، في حال حدوث شيء. فتحت الورقة بسرعة، ثم أختلطت الأسماء، شعرت أني في امتحان من امتحانات الكلية، حيث تحفظ وتنسى لأن المعلومة لا تعني لك بشيء، لأن الامتحان أسئلة تقييم لا تعليم، لأنها فرصة لأنتقم هنا، لذا غدرت بالشاب الذي وعدته أن أصوت للمرشح ذو الاسم أحمد ، أما حنين، فقط كنت نسيت ترتيب الاسم، سالم محمد أو محمد سالم، أخترت عشوائياً، وخرجت، حيث أصبحت هكذا شخصاً عادياً، مفرغاً من فرصة أن يكون، ذهبت فرصتي لأستغل الأمر أكثر، كنت أمشي و أرفع اصبعي عالياً  كلما جاؤوا لاقناعي بالتصويت، لم أعد الآن مجرد صوت ، أصبحت هذا الذي تحبه لأنه صامت ولا يزعج، خرزة صامتة على الأرض سيسير شخص عليها وتوقعه، في هذه الحرب الكبرى .

اكشفت لاحقاً أني أخترت الترتيب الخطأ للاسم، وأني وضعت اسم المغني محمد سالم سهواً، فحين لاحظت “بوستر” المرشح،  أصبت بهسيريا ضحك حين خروجي، شعرت بالخزي بعدها، ثم نظرت لحنين، كانت تتأملني، قلت لها أني فعلتها ولوحت بقبضتي، أنهيت هذا، كانت تقول لي لأني لم أقتنع سابقاً: “أن وجودي وعدمه سيان إذا لم أصوت” شعرت بذلك حقيقة، “ياه يا حنين لو تدرين ماذا أصبحت، أنت محقة جداً” حيث كانت ” بوسترات ” المرشح أمامي أسبوعاً كاملاً ولم أنتبه، وها قد أصبحت تعني لي شيئاً أخيراً، إنه الأن خطأ وقعت به وسأظل كذلك، غمزتها وأخبرتها كيف تراني الآن كشخص “مفيد”، أكدت ذلك وشكرتني، ذهبت تقنع غيري، ودعتها بصوت منخفض لم تلاحظه وغادرت، حيث نظرت لإصبعي الأزرق، لففته في قطعة محارم كأنه مصاب وخبأته .

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من الأردن.