تاريخ الوحدة
العدد 254 | 12 نيسان 2020
جيل ليبور


 

منذ قرن أو نحوه من الزمن، نادراً ما كان المرء يعيش وحيداً معزولاً، أما الآن فيعزل الكثيرون أنفسهم ويوصدون أبواب بيوتهم ليمكثوا خلفها وحيدين طواعية. كيف أصبحت الحياة العصرية موسومة هكذا بتلك الوحدة المطبقة؟ 

 

فارقت إحدى إناث الشمبانزي في حديقة الحيوانات في فيلادلفيا الحياة بسبب مضاعفات إصابتها بالأنفلونزا في وقت مبكر من صباح 27 ديسمبر العام 1878. “الآنسة شمبانزي” حسبما أفادت تقارير صحفية، رحلت “تحت رعاية رفيقها.” هي ورفيقها، الشمبانزي الذكر البالغ من العمر 4 سنوات آنذاك، ولدا قرب نهر الغابون في غرب إفريقيا” وكانا قد وصلا إلى فيلادلفيا معاً. “لا يمكن اصطياد هذا النوع من القرود إلا عندما تكون صغيرة”، كما ورد على لسان مدير حديقة الحيوانات آرثر براون، وعادة ما يتم اصطيادها مثنى أو فرادى فقط كل مرة. في الغابة “تعيش معاً في مجموعات صغيرة تضم ستة قرود وتبني مصاطب لها بين  الأغصان تصنعها من الفروع وأوراق الأشجار لتنام عليها. لكن في قفص القرود، في فيلادلفيا، حيث لم يكن هناك سواهما، “أصبحا معتادين على النوم في أحضان بعضهما على حصيرة موضوعة على الأرض” يتشبث كل منهما بالآخر بيأس، بألم وبؤس طوال الليل وبرده.

 

كانت حديقة الحيوانات في فيلادلفيا الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأمريكية. تم افتتاحها في 1874، وذلك بعد أن قام تشارلز داروين بنشر كتابه The Expression of the Emotions in Man and Animals “التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان” بعامين، والذي سرد فيه ما تعلمه من أبراهام بارتليت، مدير جمعية علم الحيوان في لندن، عن الروابط الاجتماعية بين الثدييات العليا:

العديد من أنواع القرود، كما أكد لي القيمون على حدائق الحيوانات، تبتهج بملاطفة بعضها بعضاً، وعندما يلاطفها الأشخاص الذين يهتمون بها وتتعلق بهم. السيد بارتليت كان قد وصف لي هذا عبر مراقبة سلوك اثنين من قردة الشمبانزي، وينطبق هذا بصورة أكبر على الحيوانات الأكبر عمراً من تلك التي يتم استيرادها إلى البلد، خاصة عندما تُجلب معاً. يجلسان قبالة بعضهما، يلمسان بعضهما بعضاً بشفاههما الغليظة الناتئة: ويضع كل منهما يده على كتف الآخر. بعد ذلك يلاطف كل منهما الآخر بذراعه. ومن ثم يقفان، وكل منهما يضع ذراعه على كتف الآخر، يرفعان رأسيهما، يفتح كل منهما فمه، ويصرخان بابتهاج.  

 

شمبانزي أفندي، والآنسة شبمانزي، في فيلادلفيا، كانا اثنين من أربعة قرود شمبانزي لا غير في أمريكا، وعندما فارقت الحياة بكى القيمون عليها، لكنهم، وقبل كل شيء، تنبهوا إلى سلوك رفيقها. حاول بلا طائل ولوقت طويل، كما أفادت التقارير، أن يوقظها من سباتها الأبدي. بعد ذلك “دخل في نوبة من الحزن الشديد وحالة من الهيجان المسعور.” نوبة الحزن والهيجان الشديد هذه تتوافق تماماً مع ما وصفه داروين عند البشر: الأشخاص الذي يعانون من حزن شديد وألم فقدان بالغ غالباً ما ينشدون الراحة في الحركات العنيفة، وربما المسعورة إلى حد ما.” بدأ الشمبانزي المفجوع بشد شعر رأسه واقتلاعه من جذوره. بدأ يئن وينوح، ويصدر صوتاً لم يسبق لحراس الحديقة أن سمعوه من قبل، صوتاً أشبه بالتوجع والآهات: وكأنه يصرخ “آه”. كانت صرخاته مسموعة في كل جنبات الحديقة. بدأ يرمي نفسه على قضبان القفص وينطح رأسه بقاعدة خشبية صلبة، وعندما انتهت نوبة الحزن المسعور تلك دفن رأسه في كومة من القش في إحدى زوايا القفص وبدأ بالنواح وكأن أحدهم قد اقتلع قلبه من مكانه.

 

لم يحدث من قبل أن تم تسجيل رد فعل كهذا. مدير الحديقة السيد براون أعد مقالاً علمياً تحت اسم “ألم الفقدان عند الشمبانزي.” بالرغم من مرور وقت طويل على موت الأنثى، أشار براون في مقاله “كان الذكر دائماً ما ينام على عارضة خشبية في قمة القفص، ليرجع بذلك إلى عادة متأصلة فيه، ومظهراً، على الأرجح، أن شعوره بوجود تهديد وخطر كامن قد تنامى بسبب إحساسه بالوحدة.

 

الوحدة حزن… يتعاظم. البشر ثدييات عليا أيضاً، وميالون إلى الترابط الاجتماعي بدرجة أكبر من الشمبانزي. نحن نتوق إلى الحميمية. من دونها نذبل ونذوي. وبالرغم من ذلك، وقبل وقت طويل من انتشار الوباء الحالي وما فرضه من عزلة وتباعد اجتماعي، بدأ البشر بناء أقفاص قرود خاصة بهم. في الأزمنة التي سبقت العصر الحديث، قلة فقط من البشر عاشوا وحيدين. وشيئاً فشيئاً، منذ ما لا يزيد كثيراً عن قرن من الزمن، تغير هذا الواقع. في الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من شخص واحد من بين أربعة أشخاص يعيش الآن بمفرده… في بعض المناطق، وخاصة في المدن الكبرى، النسبة أعلى بكثير. يمكنك العيش بمفردك من دون أن تكون وحيداً، ويمكنك أن تكون وحيداً حتى إن لم تكن تعيش بمفردك، لكن الواقعين مرتبطان معاً بصورة وثيقة، وهذا ما يجعل الحظر والحجر، والالتجاء إلى المنزل، فوق طاقة الاحتمال. الوحدة، وهذا من نافل القول، لها آثار بالغة السوء على الصحة. في 2017 و2018، أعلن طبيب الجراحة العامة الأسبق فيفيك إتش مورثي عما أسماه “وباء الوحدة”، وقامت حكومة المملكة المتحدة بتعيين وزير للوحدة! لتشخيص الحالة، وضع الأطباء في مركز جامعة كاليفورنيا الطبي UCLA في لوس أنجلوس معايير للوحدة. هل تشعر غالباً، في بعض الأحيان، نادراً ، أم لا تشعر أبداً بهذه الأعراض؟

لا أشعر بالسعادة عند القيام بالعديد من الأمور وحيداً.

ليس لدي من أتحدث إليه.

لا أطيق الوحدة.

أشعر وكأن ما من أحد يفهمني فعلاً.

لم أعد مقرباً من أي شخص.

لا يوجد من ألجأ إليه.

أشعر بأنني معزول عن الآخرين.

في عصر الحجر الصحي، هل يؤدي مرضٌ إلى آخر؟

“الوحدة” مصطلح رائج، موضة أو بدعة، وكغيره من المصطلحات الرائجة يشكل غطاءً لكل الأشياء التي يتحاشى معظم الناس تسميتها بأسمائها والتي ليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية علاجها. كثير من الأشخاص يحبذون أن يكونوا بمفردهم. أنا نفسي أفضّل أن أكون وحيدة. لكن العزلة والاختلاء بالنفس، وهي الأشياء التي أحبها، شيء، والوحدة، التي أكرهها، شيء آخر. الوحدة شعور بالكآبة لا يني يتعاظم. يعرّف علماء الأعصاب الوحدة كحالة من التنبه المفرط تعود أصولها إلى أسلافنا الأوائل وماضينا الذي كان قائماً على الصيد والتربص بالطرائد. معظم الأبحاث في هذا المجال وضعها جون كاسيوبو في مركز علم الأعصاب المعرفي والاجتماعي، في جامعة شيكاغو، كاسيوبو، الذي توفي في 2018، كان معروفاً بلقب “دكتور الوحدة”. في كتابه الجديد “Together: The Healing Power of Human Connection in a Sometimes Lonely World”  “معاً: القوة الشافية للروابط الإنسانية في عالم وحيد أحياناً” يشرح مورثي كيف اختبر  علماء الأنثروبولجيا “علم الإنسان” نظرية كاسيوبو الثورية عن الوحدة في جامعة أكسفورد، حيث قاموا بتتبع أصولها التي تعود إلى 52 مليون سنة لتصل إلى أوائل الثدييات العليا التي وجدت على سطح الأرض. الثدييات العليا تحتاج إلى أن تنتمي إلى مجموعة اجتماعية ذات روابط وثيقة، جماعة أو عائلة، لكي تتمكن من النجاة. يسري هذا على الإنسان بصورة خاصة (الأناس الذين لا تعرفهم قد يفتكون بك، وهي معضلة غير موجودة عند معظم مجتمعات الثدييات العليا الأخرى). انفصالك عن المجموعة التي تنتمي إليها – حيث تجد نفسك إما وحيداً أو ضمن مجموعة من الأشخاص الذين لا يعرفونك ولا يفهمون شخصيتك – يثير فيك رد فعل ينوس بين القتال والهرب. يشير كاسيوبو إلى أن الجسد البشري يحلل وضعك عندما تكون وحيداً على أنه نوع من الورطة. في هذا يقول مورثي: “على مدى آلاف السنين، أصبحت حالة التنبه المفرط في رد الفعل إلى العزلة متأصلة في نظامنا العصبي لتولّد القلق الذي نعزوه إلى الوحدة. تتسارع أنفاسنا، تزداد خفقات قلوبنا، يرتفع ضغط دمنا، ويجافينا النوم. نتصرف بخوف، بتحفظ وعدائية، بأنانية وانغلاق على الذات، وكل هذا يُبعد عنا هؤلاء الأشخاص الذين ينوون المساعدة فعلاً، ويميل إلى كبح الشخص الوحيد من القيام بأكثر فعل يفيده في حالة الوحدة التي يعيشها: التقرّب إلى الآخرين.

وباء الوحدة، في هذا السياق، أشبه ما يكون بوباء البدانة. من الناحية التطورية، حالة الهلع التي تصيب الإنسان عندما يكون وحيداً، كما عند عدم القدرة على مقاومة الأطعمة مرتفعة السعرات الحرارية، حالة عالية التكيّف، ولكن، في الآونة الأخيرة، في عالم قوانينه، أغلبها وليس كلها، تمنعنا من قتل بعضنا، علينا أن نعمل كل يوم مع غرباء، والمشكلة هنا كمشكلة توفر الأطعمة مرتفعة السعرات أكثر بكثير مما هو الحال بالنسبة إلى الأطعمة قليلة السعرات، وهذا ما يؤدي إلى نتائج عكسية.

الوحدة، يستنتج مورثي، هي السبب الكامن وراء ثلة من المشاكل – القلق، العنف، الصدمات النفسية، الجريمة، الانتحار، الاكتئاب، اللامبالاة السياسية، وحتى الاستقطاب السياسي. يكتب مورثي بنوع من الشغف، لكن حجته القائمة على أن كل شيء يمكن عزوه إلى الوحدة، يتعسر الأخذ بها، ويعود ذلك تحديداً إلى أن أغلب ما يمكنه قوله عن الوحدة قد سبق وقيل عن التشرد في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان “التشرد” هو المصطلح الرائج، ومفردة أقل وطأة إلى حد ما من “الفقر” – على الرغم من أن قولها لم يغير شيئاً. .. منذ ذلك الحين، تزايد عدد المشردين في أمريكا. على نحو يثير الفضول، غالباً ما يدمج مورثي بين المصطلحين مفسراً الوحدة على أنها شعور بالتشرد. الانتماء يعني أن تكون في بيت يأويك. يقول في هذا الشأن “أن تكون في بيتك يعني ان تكون معروفاً لمن حولك. أي مكان يمكن أن يكون بيتاً لك. المجتمعات الإنسانية هي عبارة عن منظومات بالغة التعقيد يرتبط الناس فيها بروابط حميمة هادفة من كل الأنماط مع مختلف الجماعات الإنسانية الأخرى، حتى تلك التي تفصلهم عنها مسافات شاسعة. يمكنك الشعور بأنك في بيتك وأنت مع الأصدقاء، أو في العمل، أو في ردهة الطعام في الجامعة، أو في الكنيسة، أو في مدرج ملعب فريق اليانكي، او في حانة الحي. الوحدة هي الشعور بعدم وجود مكان تنتمي إليه، وتشعر فيه أنك في بيتك”.

 

“من مجتمع إلى آخر،” يكتب مورثي، “التقيت بأشخاص تسكنهم الوحدة يشعرون بأنهم مشردون حتى لو كان لديهم سقف يحميهم.” ربما ما يحتاج إليه الأشخاص الذين يعانون من الوحدة وأولئك المشردون هو وجود منازل تجمعهم بالأشخاص الذين يحبونهم ويحتاجون إليهم، والشعور بأن هؤلاء هم بحاجة إليهم أيضاً في مجتمعات تهتم فيهم وتكترث لأمرهم. تلك ليست أجندة سياسية. ذلك اتهام وتجريم للحياة العصرية.

 

في “سيرة ذاتية عن الوحدة: تاريخ الإحساس” A Biography of Loneliness: The History of an Emotion، تعرّف المؤرخة الإنجليزية فاي باوند ألبيرتي الوحدة على أنها “شعور مُدرَك وواعٍ بالغربة أو الانفصال الاجتماعي عن الأشخاص المهمين في حياتنا،” وتعارض فكرة أنها ظاهرة عالمية وعابرة للتاريخ، والمصدر الوحيد لكل مصائبنا وعللنا. تلح المؤرخة على أن هذه الظاهرة لم تكن موجودة فعلياً قبل القرن التاسع عشر، أو على الاقل لم تكن تشكل وباءً مزمناً. لا يعني هذا أن أشخاصاً بعينهم،كالمترملين والمترملات، لم يكونوا يشعرون بالوحدة، وأن الفقراء المعدمين، والمرضى، والمنبوذين لم يكونوا يشعرون بالوحدة، بل يعني هذا، بما أنه لم تكن النجاة ممكنة من دون العيش مع مجموعة من الناس والانتماء إليهم وإقامة صلات وروابط قائمة على الحب والإخلاص والالتزام معهم، أن الوحدة كانت تجربة عابرة. على الأرحج كان الأسياد والملوك يعيشون حالة من الوحدة، وحدة مزمنة. “اسمع، من يعيشون في الأعلى يعيشون في وحدة!) لكن، بالنسبة إلى معظم الأشخاص العاديين، تنطوي الحياة اليومية على شبكات معقدة من العلاقات القائمة على التعويل والتبادل والملجأ المشترك، ما يعني أن المرء لم يكن يشعر بوحدة مزمنة أو بائسة إلا وهو يُحتضر. لا تظهر كلمة “وحدة” في الأدبيات الإنجليزية قبل العام 1800 إلا لماماً. روبنسون كروزو كان وحده، لكنه لم يكن وحيداً أبداً. “هاملت” قد تكون الاستثناء الوحيد هنا: أوفيليا تعاني من “الوحدة”، بعد ذلك تنتحر غرقاً.

شعور الوحدة العصري، من وجهة نظر ألبيرتي، هو الطفل الذي أتي نتيجة تزاوج الرأسمالية والعلمانية. وتكتب في هذا الشأن:”العديد من التقسيمات والتراتبيات التي تشكلت منذ القرن الثامن عشر – بين الذات والعالم، بين الفرد والمجتمع، بين العام والخاص…  قد تمت منهجتها وترسيخها عبر السياسات والفلسفة الفردية. هل هو من قبيل الصدفة أن لغة خاصة بالوحدة قد ظهرت في الوقت نفسه؟” لم تكن صدفة. نشوء الخصوصية بحد ذاته، والتي أتت كنتيجة لرأسمالية السوق – الخصوصية في هذا السياق هي منتج تشتريه –  كانت باعثاً لولادة الوحدة. كذلك الأمر بالنسبة إلى النزعة الفردية، والتي عليك أيضاً أن تدفع المال للحصول عليها. كتاب ألبيرتي هو عبارة عن تاريخ ثقافي (تقدم فيه قراءة مهدئة لرواية Wuthering Heights “مرتفعات وذرنغ،” مثلاً، و the letters of Sylvia Plath “رسائل سيلفيا بلاث”. لكن التاريخ الاجتماعي أكثر إثارة، وفي ذلك السياق تبين الأطروحة أنه بغض النظر عن نوع وباء الوحدة الذي يمكن الإدعاء بوجوده، يبقى وثيق الصلة بعيش الإنسان بمفرده. ربما يصعب الجزم ما إذا كان عيش الإنسان بمفرده يجعله وحيداً، أم إذا كان الإنسان يعيش بمفرده مدفوعاً بشعوره بالوحدة، لكن غالبية البراهين تبين رجحان كفة الاحتمال الأول: هو ضغط التاريخ، وليس الإكراه لمحدودية الخيارات، ذاك الذي يجعل الإنسان يعيش وحيداً. هذه معضلة الأشخاص الذين يحاولون مكافحة وباء الوحدة، لأن ضغط التاريخ لا يرحم.

قبل القرن العشرين، وبحسب أفضل ما تم إنجازه من دراسات ديموغرافية تطول قائمتها، حوالى 5% من الأُسر (أو حوالى 1% من التعداد السكاني العالمي) كانت مؤلفة من شخص واحد فقط. بدأت هذه النسبة تزيد خلال العام 1910، وذلك كنتيجة للتمدن، وانحسار أعداد الخدم المقيمين في بيوت أرباب عملهم، وانخفاض معدل الولادة، واستبدال الأسرة التقليدية التي تضم أجيالاً متعددة بالعائلة البيولوجية المصغرّة. بحلول الوقت الذي نشر فيه ديفيد ريسمان كتاب The Lonely Crowd “الحشد الوحيد” في العام 1950، أصبح معدل الأُسر المؤلفة من شخص واحد 9%.

في العام 1950، اكتشف الطب النفسي ظاهرة الوحدة، وذلك في مقال بارع ارتكبته المحللة النفسية فريدا فروم رايكمان، كتبت فيه، من ضمن ما كتبت: “تبدو الوحد تجربة مؤلمة ومخيفة لدرجة أنها تدفع الناس إلى فعل كل ما بوسعهم لتفاديها.” هي، أيضاً، انقبض قلبها من الخوف بمجرد التفكير فيها. “التوق إلى العلاقة الحميمة التي تربط إنسان بآخر يبقى ماثلاً في نفس الإنسان منذ الطفولة حتى نهاية عمره،” كتبت، “وما من بشر على سطح الأرض إلا ويعيش حالة من الفزع من فقدان هذه الحميمية.” أولئك الذين لا يعيشون الوحدة يخافون جداً منها، ما يدفعهم إلى تجنب الشخص الوحيد توجساً من احتمال أن تكون وحدته معدية. وأولئك الذي يعيشون في وحدة يكونون هم أنفسهم مذعورين مما يختبرونه وهذا ما يجعلهم كتومين ومهووسين بذواتهم… تولّد الوحدة في دواخلهم قناعة حزينة بأن ما من أحد قد اختبر ما مروا أو يمرون به كل يوم، أو يدرك هول الرعب والبؤس الذي يعيشونه،” كتبت فروم رايكمان. تتجسد إحدى مآسي الوحدة في حقيقة أن الأشخاص الوحيدين لا يمكنهم إدراك أن الكثيرين غيرهم يعيشون الإحساس نفسه.  

“خلال نصف القرن الماضي، شرع جنسنا بعيش تجربة اجتماعية استثنائية،” كتب عالم الاجتماع إيريك كليننبرغ في “Going Solo: The Extraordinary Rise and Surprising Appeal of Living Alone “العزف المنفرد: التصاعد الاستثنائي والافتتان المفاجئ بالعيش وحيداً” من العام 2012. “للمرة الأولى في التاريخ البشري، أعداد هائلة من الناس، من كافة الأعمار، ومن كل مكان، ومن مختلف القناعات السياسية – بدأوا يحبذون العيش بمفردهم ويشعرون بالاستقرار وحدهم.” ينظر كليننبرغ إلى هذا، وإلى حد كبير، على أنه نوع من النصر، ولكنه بصورة أقرب إلى العقل، كارثة. ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، ازدادت نسبة الأُسر المكونة من شخص واحد بوتيرة متصاعدة، وذلك بتأثير تزايد معدل الطلاق، واستمرار انخفاض معدل الولادة، واستطالة فترات الحياة قبل كل شيء. (بعد نشوء العائلة البيولوجية، بدأ كبار السن يعيشون بمفردهم، وكانوا غالباً من النساء اللواتي فقدن أزواجهن وتابعن حياتهن بعدهم.) بدأت الأدبيات الطبية التي تناقش الوحدة الظهور في ثمانينيات القرن الماضي، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه صنّاع السياسات بالاهتمام بظاهرة “التشرد” والإشارة إليها وتسميتها باسمها، وهي حالة أكثر فظاعة بمراحل من كون الإنسان يعيش في أسرة مكونة منه فقط: أن تكون مشرداً يعني أن تكون أسرة مكونة من شخص واحد ليس لديه سقف يحميه. بدأ كاسيوبو بحثه في تسعينيات القرن الماضي، حتى في ذلك الوقت الذي بدأ فيه البشر يبنون شبكات من الحواسيب التي تربطنا جميعاً بعضنا ببعض. كليننبرغ، الذي تخرج من الجامعة في العام 1993، اهتم بشكل خاص بالأشخاص الذي اختاروا أن يعيشوا بمفردهم في تلك الفترة بالذات.

 

أعتقد أنني كنت واحدة منهم. حاولت أن أعيش بمفردي عندما كنت في الخامسة والعشرين لأن ذلك قد بدا مهماً بالنسبة إلي، طريقة امتلاك قطعة من الأثاث ما كان بإمكاني أن أعثر عليها في الشارع بدت مهمة بالنسبة إلي، ودلالة على أنني قد أصبحت بالغة راشدة، وبإمكاني أن أدفع الإيجار من دون أن أضطر إلى تأجير شقة، مؤجرة من الباطن، من الباطن! كنت فقط قادرة على شراء خصوصيتي، كما يمكنني القول الآن، لكنني في ذلك الحين كنت سأقول إنني قد أصبحت “أنا نفسي”. لم أصمد سوى شهرين. لم أكن أحب مشاهدة التلفاز بمفردي، كما لم أكن أمتلك تلفازاً في الأساس، وذلك الزمن، إن لم يكن العصر الذهبي للتلفاز ككل، فقد كان العصر الذهبي لمسلسل “The Simpsons” “ذا سيمبسونز” لذا بدأت بمشاهدة التلفاز بصحبة الشخص الذي يقطن الشقة المجاورة. انتقلت للعيش معه، ومن ثم تزوجته.

 _________________________

عن مجلة The New Yorker

 

*****

خاص بأوكسجين