تاتو
العدد 235 | 21 أيلول 2018
ميسلون هادي


ذهب ثامر وتمارا إلى الخطاط الشهير الذي يخط اللوحات والإعلانات وواجهات المحال التجارية، ولديه أيضاً في الطابق الأول شرفة صغيرة لرسم التاتو للشبان والشابات..  كان يرتدي قميصاً بنصف كم تبدو من تحته يده اليمنى كثيفة الشعر متسخة بالأحبار والألوان. يده طويلة جداً، ومرسوم عليها عناكب وعقارب وصقور..  ولساعة كاملة كان مشغولاً بوضع لمسات أخيرة على لافتة كبيرة تقول: هذا الشبل من (زاك) الاسد.

اللافتة بيضاء مفروشة على منضدة مستطيلة الشكل،  وعلى جانبيها صورتان لعبد الفتاح السيسي وجمال عبد الناصر.. طوى طرف القماشة، ورفع رأسه داخل غيمة من دخان السجائر، وقال:

تفضلا.
نريد أن تضع على الكتف الأيمن لكل منا وشماً بالحروف الاولى لأسمينا.. ثامر وتمارا.
إصعدا من هنا.. إلى غرفة التاتو.

صعدا إلى ظلام الطابق العلوي، وبعد قليل أشعل لهما الوشّام مصباحاً كبيراً، فأصبحا يتفرجان على الجدار المحتشد بالنماذج والصور، ومن تلك النماذج  يمكنهما اختيار  أشكال معينة تتحول إلى أوشام ثابتة أو مؤقتة تتحرك فوق الأرض..  كانا لوحدهما في تلك الشرفة التي تطل على الطابق السفلي عبر سور خشبي مشبك.. تامارا مطيعة ولطيفة جداً، ولا يوجد في الدنيا من هو برقّتها. وثامر يرفض كل ماحدث سابقاً أو حتى آنفاً، ويلاحق كل ما هو جديد وجنوني في العالم.. لا تنتهي تلك الصرعات، ولا الأذواق التي تلائمها تلك الرسوم المعلقة على الجدار.. ظلا يتفرجان ويتحدثان بصوت خفيض. لم يشعرا بمرور الوقت، وتأخر الوشّام في الصعود اليهما، تأخر كثيراً بسبب اللافتة، فاستغرق ثامر وتمارا في تأمل تلك الصور والتعليق عليها… قالت تمارا:

ما أسخف عمر المراهقة.. انظر إلى هذه الوحوش والأشكال المخيفة.. مجنون من ينقش جسمه بمثل هذه الأوشام.
ليس الأمر كذلك يا حبيبتي.. فالنفس تحب الجديد وتريده.
تقصد أن النفس أمارة بالسوء.
 أقصد هل جربت النظر إلى أريكة قديمة أو بيت قديم.. أو حتى إلى صورة قديمة..
نعم نظرت.
 ألا تجدين كيف تبدو الصورة كئيبة، ومقبضة للنفس. 
همممم.. لربما الثلاجات القديمة فقط يبدو منظرها كئيباً.
والتلفزيونات.
همممممم. نعم التلفزيونات كذلك.
والسيارات؟
هممممم. أعتقد أن بعضها كئيب فعلاً.
والثياب؟
هممممممم. لا أدري.. معك حق كما أظن، الروح تحب كل جديد.
وإن تأخرنا سنجده قديماً بعد فترة قصيرة. البشر  يا عزيزتي هم الذين يدشنون متاع الوقت الجديد، ويبيعون  في المزاد أنتيكات الوقت القديم الذي كانوا فيه.

صعد الوشًام إليهما.. وبدأت العناكب والعقارب تتحرك فوق ساعديه.. طلب من تمارا الجلوس أولاً.. فقالت أخاف.. ثم طلب من ثامر الجلوس قبلها، ففعل.

ظلت تمارا تنظر إلى جهات مختلفة محاولة تفادي النظر إلى يد الوشام، وابرته الكهربائية التي كانت تهتز بسرعة فائقة، وتصدر بعض لمعات ضوء خاطفة..  وما هي إلا دقائق وانتهى الوشام من وضع حرف التاء على كتف ثامر،  ولم يكن العمل أصعب على كتف تامارا، فانشغل ثامر بالنظر عبر الدرابزين إلى الأسفل: الى اللافتة البيضاء التي كان حبرها يجف فوق كلمة الأسد في حيد ناتئ من الطابق التحتاني.. شعرت تمارا بعد قليل بألم شديد لوخز الأبرة، وحرقة الحبر الذي اختاروه باللون الأسود.. وعندما قال الوشام “خلاص”.. التفت ثامر إلى كتف تمارا، فوجد حرف السين على كتفها، وليس حرف الثاء.

ماذا فعلت يا ابني؟
عملت إيه. فيه إيه؟
انا اسمي ثامر ، وليس سامر.

ثم اخرج لسانه ووضعه بين أسنانه، وهو يردد :

ثاء ثاء.
………
ماذا نفعل الآن؟

اقترح الوشام، وهو يضحك، أن يغير اسمه من ثامر إلى سامر، لأن هذا الوشم لا يزول بسهولة.. ثم قال بتعال، بعد توقف الجميع عن الضحك:

يمكنني إزالته بعد أشهر من الآن.. تعالوا بعد العيد، فيكون الوقت قد مشى قليلاً، وبإمكان الجلد أن يتحمل مادة كاوية أخرى. إزالة الوشم أصعب بكثير من نقشه.
ماذا تقولين يا تامارا؟

 يبدو أن تمارا قد تمرمرت بما في الكفاية من ثامر ولا مبالاته.. فخطيبها لم يكن ساهياً لاهياً فحسب، ولكنه كثير المزاح والمقالب.. ذاقتها كلها على مضض، وضاقت ذرعاً به وبمزاحه الثقيل. وكانت تلك الواقعة هي القشة التي قصمت ظهر البعير.

ماذا تقولين يا تمارا.

 سؤال غريب شعرت أنه يشكها في قلبها المجروح، ويرمي بحفنة ملح فوق جروحه،. لا زالت تظن أن ما فعله الوّشام المصري قد يكون مقلباً آخر يقوم به ثامر من أجل ضحكة مجلجلة.. نقلت نظراتها بين الاثنين، وهي تتوقع أن تجد نهاية لهذا المقلب، ولكن لا نهاية، ولا بداية، ولا أية إشارة تدل على خبر مفرح.. مما يعني أن الكيل قد طفح بها،  وأن رائحة السجائر التي تنبعث من المكان أصبحت لا تطاق.

جاءت مع أهلها إلى مصر بعد الحرب الأمريكية على العراق،  وهو عراقي أيضاً جاء إلى مصر من إنكلترا للعمل في شركة انترنت.. كان مدمناً على الجلوس إلى “لابتوبه” دائخاً بعمله المتواصل لمدة ست سنوات مليئة بالمشاكل والمشادات. لم يعد الأمر يُحتمل بعد أن أصبح ينسى من هو أحياناً، أو أين يسكن بالضبط، وقد مر على خطوبتهما عدة سنوات. وأهلها يريدون أن يعرفوا ما إذا كان هذا الصعلوك جاداً أم لا في مشروع الزواج؟ لم يروه مرة واحدة قافلاً أزرار أكمامه، أو قميصه حتى النهاية.. وهذا ما تأخروا في إدراك معناه الفعلي حتى وقعت حادثة الوشم المشؤوم.

 رمت تامارا خاتم الخطوبة في وجهه، وانطلقت تعيش حياتها بالطول والعرض.. ستبحث بالفعل عن رجل بحرف السين، هذا أفضل عندها من إزالة الوشم، أو تغييره إلى حرف الثاء اللعين.. ستدع حرف السين على كتفها رمزاً لحريتها الغالية، وعندما تشبع من هذه الحرية، ستجد رجلاً بحرف السين.. وما أكثر  الأسماء بحرف السين في البلاد العربية.

ثامر لم ييأس، وحاول أن يصالحها عدة مرات بدباديب حمراء وبيضاء ورمادية اللون.. كما تحبب إليها بتجعيد وجهه على شكل طفل يبرطم، واهداها الموبايل الذي تحبه قائلاً لها إنه من أشهر الماركات التي تجمع بين العراقة والحداثة،  وإنه اشتراه لها بثمن أعلى مما تخيل،  فيما هو في الحقيقة هدية مجانية من شركة الانترنت التي يعمل فيها..

أنت ميؤوس منك يا ثامر.

 ثم تبخرت تمارا من حياته بشكل نهائي.. ولا يعرف ماذا يفعل الآن.. هو أيضاً قد وشم كتفه بتاء مفتوحة.. غير أن خشخشات الحلوى، وإشعارات الموبايل تملأ جيوبه، ولم يكن جاداً في أي شيء خلال حياته، ولا حتى عندما علق الآمال على لعبة بحث مسلية وجدها أفضل من نصيحة صديق مصري اقترح، حلاً للمشكلة، إضافة نقطة واحدة على التاء، فيصبح الحرف ثاءً، وهو الحرف الأول من اسمه الغريب. قال له:

معه حق الخطاط يا أخي، فاسمك غير مألوف في مصر، لا هو تامر ولا هو سامر..
وهل جننت بداء العظمة لهذه الدرجة، بحيث أضع الحرف الأول من اسمي على كتفي.. لا حل غير أن أبحث عن فتاة يبدأ اسمها بحرف التاء.

 قرر أن يمضي في غمار هذه اللعبة الجديدة، ويبحث له على الفيسبوك عن بنت بحرف التاء مثل خطيبته السابقة، وهو المكان نفسه الذي كان قد عثر فيه على تمارا أيضاً.. كل يوم لقاء.. وكل يوم فراق.. وكل تعليق يقوده إلى تعليق آخر.. وكل صديق يقوده إلى صديقة جديدة، أو فتاة بعيدة يتعرف عليها للمرة الأولى. ليس شرطاً أن تكون عراقية، فماشاء الله مصر امتلأت بالمهاجرين العرب بعد ثورات الربيع العربي.. والزملاء جاءوا وحداناً وزرافات ليساعدوه في مهمة البحث عن فتاة يبدأ اسمها بحرف التاء.

(تارا) كانت مخطوبة، و(تبارك) أطول منه كثيراً، و(تحية) هي المرشحة الوحيدة التي تعرف عليها عياناً بياناً  بعد أحاديث طويلة تخللتها وجوه وقلوب وإبهامات مرفوعة على الشات والمسنجر.. قالوا له إنها شاعرة شعبية معروفة ساهمت في كتابة أوبريت غنائي اسمه (أجيال ورة أجيال)، و إنها لا تدخل المصاعد، أو تصعد الأدراج،  إلا بقدمها اليمين……  ولكن المشكلة أنها تصافح الجميع،  ولا تقبل أن تصافحهه.. لا أحد يعرف لماذا؟ لعلها تنتمي إلى منظمة سرية لا تجيز مصافحة الرجال من المهاجرين العرب..

 لم يكف ثامر عن البحث والتنقيب في الخانات الزرقاء عن أسماء فتيات تبدأ بحرف التاء.. وعندما عثر على توحة حفيدة تفيدة….. وجد أنها تحب الثرثرة كثيراً على التشات، وتحفظ اسماء وعناوين جميع أبطال المسلسلات التركية والسورية والهندية.. توقف لبعض الوقت، ودخل في سحابة من الصمت والبلاهة، حتى قال له أحد الأصدقاء، وكان شبيهاً بأحمد السقا، لماذا تشغل نفسك بحرف التاء.. لماذا لا تترك الوشم وشأنه.. فالكل يعرف القصة وما فيها.. وأي خطيبة جديدة، لن تقبل أن تكون بديلة لخطيبة سابقة.. كأنك تمنحها بهذا الوشم القديم وساماً من صفيح. بينما تستطيع بكل بساطة أن تثير عطفها وعبراتها بقصة وشم حقيقية انتهت بشكل مأساوي.. وطبعاً أنت كنت الضحية فيها.

ثريا التي راقبت الموضوع عن كثب، وساعدته في مهمة البحث عن واحدة بحرف التاء، لم تكن تنوي العثور على واحدة.. إنها تعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف تضع النقاط على الحروف…. فقد تعرفت عليه عن طريق صديقه الشبيه بأحمد السقا زميلها السابق في قسم الديكور بالمعهد العالي للسينما… وتعمل حالياً بقسم التماثيل الشمعية في مدينة الانتاج الاعلامي كنحاتة ماهرة، ومرجع لا يمكن الاستغناء عنه في جميع الأفلام العربية التي ظهرت فيها عصافير  صناعية، ودمى أطفال رضع.. وأظافر ملطخة بالدماء.. عملها غريب بالفعل.. ومن المتوقع جداً أن تكون خفيفة الظل.. وذكية أيضاً.. ولديها حاسة سادسة.. وبعد نظر، ومنذ البداية كانت قد حسبت حسابها للأمد الطويل، ويمكنها أن تملأ فراغ الصمت والحيرة، وتجد حلاً لمشكلة حرف التاء بنقطة واحدة..

ثريا يمكنها أن تضرب عصفورين بنقطة واحدة  فوق تلك التاء  اللعينة.

 وثامر لا زال يفكر.

 

*****

خاص بأوكسجين


روائية وقاصة من العراق.rn

مساهمات أخرى للكاتب/ة: