بائع خيال
العدد 231 | 20 أيار 2018
طارق يوزباشي


في قريةٍ وادعةٍ يلقي فيها النهر مع بزوغ خيوط الضوء البكر تحية الصباح على الغيوم والأشجار والنسمات التي تتغنج في انسيابها كفتاة عشرينية والعصافير والفئران والضباع المتثائبة المنسلة إلى كهوفها بوقار وآكل النمل أفندي والخفافيش المشمئزة التي لا يروق لها طعم النهار لا بالحلال ولا بالحرام، كان يعيش أبو محجوب والملقب بـ”الغفلان” مع زوجته وطفلته الوحيدة التي أسماها ظل… وقد التصق لقب “الغفلان” بأبي محجوب منذ أن قوي عوده لما كان يقضيه من ساعاتٍ وساعاتٍ وهو حالمٌ سارحٌ غارقٌ في عالمه الخاص وكأنه مخدر لا يشعر بكل ما حوله، حتى أنّ الناس كانوا يتهامسون فيما بينهم بأنّ أبا محجوب ممسوس بفعل الجن أو أنّ عصافير عقله بدأت تصول وتجول في فضاء جمجمته منذ وقتٍ ليس بالقصير…

اتصف أبو محجوب بكسله العضال وعدم قدرته على إتمام أي عملٍ أو نشاطٍ مهما كان بسيطًا، حتى أنّ زوجته هي التي كانت تقطع خشب الأشجار وتمونه ليقيهم سخط الشتاء وتحرث بستانهم الصغير وتجلب جرر الماء من النهر العجوز الذي لم يغادر مكانه قط منذ ولادته وتذهب إلى سوق القرية الذي يغص بأكوام البشر لبيع محصول الأرض الخجول الذي لا يتعدى بعض سحارات البندورة والليمون الحامض وتعتني بتربية طفلتهم الغضة ظل والتي لم يمر خبر حمل أمها بها مرور الكرام، حيث تحول إلى نكتة أو طرفة تناقلها أهل القرية فيما بينهم وهم يضحكون ويتمتمون مستغربين نجاح أبو محجوب غير المعهود في مثل تلك المهام الشاقة!!

ومع مرور الزمن وتغير الأحوال وضيق العيش تاراتٍ وتارات وازدياد متطلبات الحياة ومصاريف المعيشة، ضاق أبومحجوب ذرعًا بهذه الحال ولم يعد يطيق جلوسه مكتوف الأيدي وزوجته المسكينة تجوب الأرض كل يومٍ كغيمة نشيطةٍ لتؤمن له ولابنته ما يسد رمقهم ولا يحيجهم لسؤال الناس… وفي كل مرة كان يفكر فيها أبو محجوب بمهنةٍ أو صنعةٍ يعمل بها كان يسمع صوتًا مقيتًا يذكره بواقعه وبكونه إنسان فاشل لا يفلح حتى بحلب بقرته القابعة في إسطبل الدار…

امتنع أبو محجوب عن الكلام لأيامٍ طوال ولم يعد يأكل بنهمٍ كما عادته، حتى أن الحمى كانت لا تفارقه وكأنها وجدت في صحبته متعةً وتسلية، وصار وجهه شاحبًا مائلاً إلى الصفرة المبالغ بها.. بقي أبو محجوب على هذا الحال إلى أن استفاق صبيحة أحد الأيام وهو يصرخ كالمجنون:”سأبيع الخيال يا إم محجوب، جوزك رح يصير بياع خيال قد الدنيا”… شعرت إم محجوب بالخوف وبدأت الريبة تلعب في صدرها كالفأر، فهل يعقل أن الرجل قد جن وفقد صوابه؟! “شو حالك يا رجال… شراب من طاسة الرعبة” هكذا كان رد فعلها، ليجاوبها أبو محجوب بصوتٍ مشبعٍ بالثقة:” لك شو طاسة رعبة ما طاسة رعبة يا مرتي، والله لصير مضرب للمثل والله”…

خرج أبو محجوب من بيته كالسهم، وراح يجوب شوارع القرية كالمكوك وهو ينادي بصوته الرخيم:”قرّب يا حبّاب، خياااال خياااال للبيييع” ويردفها بعبارات أخرى كــ”حابب تصير سلطان، صدر أعظم، زير نساء، مفتي بلفة، صاحب كاس، خزندار، سردار، مير علم، وزير، عنترة أو قيس، جارية السلطان، بس بصالحية وحدة” (وكانت الصالحية هي العملة المتداولة في تلك الأزمان)… هاج أهل القرية وماجوا وراحوا يؤكدون حينها بأنّ أبو محجوب العوض بسلامتكم طار نصف قرص العقل المتبقي في رأسه!!

لم يستمع أبو محجوب لكل تلك الأقاويل ولم ينوِ الاستماع لها أصلاً حيث استبدل أذنيه بواحدة من طين وأخرى من عجين وبقي معاندًا مثابرًا يستيقظ من جهجهة الضوء ولا يعود إلى بيته إلا بعد أن يغرق الكون في العتمة. وقد دفع إصرار أبو محجوب وانضباطه الغير معهودين أهل القرية إلى الرضوخ لرغبته ومحاولة اختبار جودة بضاعته وهي “الخيال”، وراح الناس يوقفونه في الطريق ويعطونه صالحية واحدة ويقولون له:”هات لنشوف بيعنا خيالك”… ولا يكذّب أبو محجوب الخبر حتى يبدأ ببيع الخيال الأصلي المصنع محليًا والمدفوع الضرائب والغير مخالف لقوانين الدولة آنذاك، فالخيال كان مثله مثل أي بضاعةٍ أخرى يخضع لما تخضع له من ضوابط وأحكام…

المهم كان أبو محجوب يفصّل الخيال على مقاس المشتري، فإن وجد الشاري فقيرًا معدمًا باع له خيالاً يكون فيه غنيًا متخمًا بالمال والطعام والقصور، وإن كان الشاري شابًا في مقتبل العمر باعه خيالاً يكون فيه فارسًا شجاعًا قوي البنية تحيك عنه النساء قصصها وتحلم بصحبته العذارى والأرامل، وإن كان الشاري صبيةً يائسةً ساخطةً من سوء حظها الأحول الذي لم يجلب لها عريسًا بعد لباعها خيالاً تكون فيه تسرح وتمرح في بيت زوجها وأطفالها الذين يصعب عليه عدهم يتحملقون حولها كفراخ البط…

ومع مرور الأيام والأسابيع والشهور، ذاع صيت أبي محجوب وصار اسمه حديث الناس ليس فقط على مستوى القرية بل في كل أنحاء الولاية، وامتلأت صرره بالمال الحلال الذي كسبه من كده وتعبه وعرق خياله. وراحت أم محجوب تحلف باسم أبي محجوب ليل نهار بين الناس وتتباهى بزوجها أمام نساء القرية وكأنها متزوجة لحاكم البلاد بشحمه ولحمه حرفيًا..

وفي صباح يومٍ لا شمس له دقّ باب بيت أبي محجوب، وإذ بمجموعة من عسس السلطان وحاكم الأزمان يقفون عند الباب، هلع أبو محجوب للوهلة الأولى من منظرهم وخصوصًا أن سيرتهم لم تكن بالحسنة بين الناس، لكنه حاول إخفاء شعوره ذاك لأنّ مثل هذا الشعور يمكن أن يحيله إلى ما وراء الشمس ولاسيما أن الشعورلم يكن ملكًا لصاحبه ولا يحق له التصرف به كما يحلو له، فكل شيء كان ملكًا للسلطان؛ المشاعر والأحلام، الضحكات والدموع، القبل وكلمات الغزل، النوم والأرق، الفحولة والخصاء!!

رحب بهم أبو محجوب أيما ترحيب ودعاهم إلى منزله لشرب المليسة، لكنهم طلبوا منه الذهاب معهم فورًا ودون ممانعة أو تلكؤ لأنّ السلطان بذاته يريد مقابلته في قصره في العاصمة… وعندما سمعت أم محجوب التي كانت تقف في حوش الدار طلب حرس السلطان جلست في أرضها كالمغشي عليه وهربت كل مفردات اللغة من رأسها حينها، حتى أنها راحت تشير بيدها إلى ابنتها المشدوهة إشاراتٍ مفادها أنّ أبو محجوب عليه العوض ومنه العوض!!

عند باب قصر السلطان، انتصب أبو محجوب كالرمح ينتظر أن يؤذن له بالدخول. وعند سماع صوت حاجب السلطان ينادي بصوته الرزين:”أبو محجوب الغفلان… ادخل برجلك اليمين فأنت في حضرة السلطان”، عندها لم يعد أبو محجوب قادرًا على التمييز بين رجله اليمنى واليسرى لكنه استجمع ما تبقى من قواه ودخل ديوان السلطان داعيًا الله أن يكون قد اختار الرجل الصحيحة!!

“السلام عليك سيدي وقرة عيني ومهجة فؤادي… مولاي السلطان الموقر”، هكذا كانت الجملة الأولى التي تلعثم بها أبو محجوب عندما وقعت عينيه على لؤلؤة الزمان مولاه السلطان… ليرد عليه صوتٌ يكاد لا يسمع قائلاً:”أهلاً بكم يا أبو محجوب في قصرنا” تبعت بقهقهة مطولة قطعها سؤال السلطان:”هل تعرف يا أبو محجوب لماذا طلبتك؟”، ليرد أبو محجوب بصوتٍ خافتٍ كفتاةٍ تستحي من سؤال أهلها لها عن شابٍ طلب يدها للزواج:”وكيف لرجلٍ أحمقٍ مثلي أن يعرف ماذا يريد مني سلطاننا وحاكمنا والدم الجاري في عروقنا”، لتنفجر بعدها ضحكة السلطان كالقنبلة الصوتية في أرجاء القصر…

“اسمع يا أبو محجوب، سمعت عنك وعن الخيال الذي تبيعه للناس. والحقيقة أنّ الجميع يمتدح بضاعتك وجودتها. حتى أنني قررت بنفسي أن أطلبك لشراء قيراطٍ أو اثنين من خيالك.. فهات ما لديك!!”، هذا ما قاله السلطان لأبي محجوب مبررًا سبب اقتياده له. وبعد بضع ثوان، ردّ أبو محجوب بعبارات تبين سعادته وغبطته لأن السلطان قرر أن يشتري منه خيالاً، لكن لسوء الحظ لم تجرِ الرياح كما تشتهي سفن أبي محجوب المسكين، كيف لا وقد استغرق دقائق طوال وهو يفكر في خيالٍ يبيعه للسلطان لكن دون جدوى!! فأطنان الخيال التي كان يحتفظ بها أبو محجوب في جمجمته تحولت بقدرة قادر إلى ذرات غبار، إلى هباءٍ منثور، إلى أرضٍ بور..

حاول أبو محجوب جاهدًا أن يتخيل السلطان في حالةٍ ما تدخل السرور إلى قلبه وتسر خاطره، لكنه فشل فشلاً منقطع النظير في كل محاولاته تلك. فكيف لرجلٍ مسكينٍ مثل أبي محجوب أن يفصّل خيالاً يليق على كسم السلطان وهو الذي يملك المال والقصور والأراضي والبلاد والعباد والفرح والابتسامات وأجمل نساء الإنس والجان…

ضاق السلطان ذرعًا بأبي محجوب وفشله في تلبية طلبه وبيعه خيالاً يدخل السرور إلى قلبه، فطلب من حراسه أن يزجوا بأبي محجوب في أحد زنزاناته المقفرة التي لا يدخلها شمسٌ ولا ذبابٌ ولا بعوضٌ ولا تمتماتٌ ولا أي مظهرٍ من مظاهر الحياة إلى حين فلاح ونجاح أبي محجوب في المهمة الموكلة إليه…

مرت السنوات مرّ السحاب، حتى كاد الناس ينسون أن شخصًا كان اسمه أبو محجوب يعيش بينهم ويتنفس أكسجينهم، وأبو محجوب يقبع في زنزانته تلك ككرسي مهملٍ لا يعبأ به أحد وبخياله الذي تحول إلى ضرعٍ متحجر… وبالكاد تذكر الناس وأهل القرية اسم أبي محجوب عندما سمعوا خبر موته القادم إليهم كالطاعون من بلاد السلطان…

وتوالت بعدها الأجيال وحبلت النساء وترعرع الصبيان والفتيات دون أن يكون لهم خيال، ودون أن يعرفوا أصلاً بوجود هكذا شيء على سطح الأرض، حتى أن كلمة خيال وكل مرادفاتها حذفت واجتثت من جميع القواميس والكتب والمجلدات وانمحى أثرها من الوجود… ليعيش بعدها الناس بكل سرورٍ داعين الله أن يأخذ من أعمارهم وأعمار أطفالهم ويزيد في عمر السلطان اليافع ذو المائة عام!!

*****

خاص بأوكسجين

 

 


كاتب من سورية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: