النسويات الأوائل
العدد 256 | 23 أيار 2020
برناردين ايفارستو


كنّا هناك عندما كنتم على وشك التطور إلى بشر، غير مدركين لمستقبل مليارات الأرواح التي حملناها داخلنا في حمضنا النووي الذي اُكتشف لاحقاً، غافلين عن قدرتنا على إنجاب نسخ كاملة النمو من أنفسنا، من أجنّة تكبر في رحم كل أمّ، فكنّا بذلك الأمّهات الأوائل الحاضنات للجين البشري.

فخورات نحن بذلك، وسنعبّر عنه، بملء حناجرنا، عندما نجتمع في اللقاء السنوي للأمّهات المؤسِسات، فالجنس البشري موجود بسببنا، وهذه المفخرة، تعود لنا وحدنا، لكننا، ويا للعار، لسنا مرئيات مع الأسف، في خضم هذا الهوس بالحمض النووي  الذي نشهده اليوم، إلا أننا نودّ تقديم أنفسنا للعالم، بشحمنا ولحمنا، متبخترين على مسار الزمن بملابسنا المبهجة، كأيقونات غريبة عجيبة من عصر ما قبل التاريخ

كنا هناك عندما كنتم على وشك التطور إلى بشر، رغم أننا لم نكن نعلم ذلك وقتها، كما لم نكن نعلم أن البشر يزحفون إلى الوجود، بعدما تقطّعت أوصال الكوكب، إلى قارات منفصلة، بعد فترة من صقيع بسط ذراعيه على العالم خلال العصور الجليدية، وغطّت صفائحه الثلجيّة البرّ والبحر، بعدما برزت الجبال الجليدية الشاهقة في الأفق الأزرق البارد، وأعملت في مياه البحار رشفاً وتجميداً، والممرات المائية تجفيفاً، مخلّفة أحواضاً خاوية، وكاشفة الجروف القاريّة المدفونة على بعد أميال في عالم المحيطات التحت أرضية، بعدما ذاب الثلج، وبان المرج، بعدما خلعت الصحاري عباءتها البيضاء، وزحفت نحو ما اِخضرّ وأسرّ من النباتات الاستوائية، والغابات المطيرة العذراء، المحملة بالفواكه، والمسكونة بالضواري

كنا باكورة العشائر، ومستهلّ القبائل، والمستكشفات الأوائل، بعدما اكتسبنا غريزة أمومية نحو ذريتنا، وتوقفنا عن الابتعاد من ذلك الفضولي المنشقّ عن أجسادنا، بعدما تعلّمنا أن تزويج الأطفال المولودين من بطن واحدة،  وتزويجهم من آبائهم كذلك، سيؤدي خلال جيلين أو ثلاثة، إلى ولادة جيل يشوبه وهنٌ عظيمٌ لأجيال وأجيال، بعدما تعلّمنا الترحال والتجوال بحثاً عن الطعام، واكتشفنا المزيد من الأراضي في المجهول العظيم، بعدما اكتسبنا ما يكفي من الذكاء لاكتشاف النار، وحرارتها الجبارة التي صنعناها، وتعلمنا كيفية تحويل العظام والصخور إلى أدوات، بعدما توسّعت مداركنا، وقَصُرت أذرعنا، وطالت سيقاننا، حتى انتصبنا واقفين، وانطلقنا نحو الهجرة البشرية العظيمة، قاصدين كل حدبٍ وصوب، إلى آسيا، وأميركا، وأستراليا، والقطب الشمالي، وأوروبا، وإفريقيا بأسرها، موطننا، ونقطة بدايتنا.

 

كانت السنوات الأولى عصيبة، نحبّذ استذكار ذلك في اللقاء العاشر للأمهات المؤسِسات، أثناء انغماسنا في العادات الاجتماعية للقرن الحادي والعشرين، كالتظاهر بشرب الشاي وتناول البسكويت، والادّعاء بآداميتنا المعاصرة، بينما كنا موجودات فعلاً لملايين السنين، بشكل أو بآخر، وكيف ضحكنا في احتفالات الألفية في يوم آخر، على شرف الانتقال من القرن العشرين إلى الحادي والعشرين، كما لو كان الأمر حدثاً عظيماً، وأسلافنا لم يذوقوا طعم الحياة، على عكسنا نحن من واجهنا الانقراض مرات ومرات، سواء لنقص الطعام أو الشراب، لارتفاع الحرارة أو انخفاضها الشديدين، نحن من واجهنا الانقراض من حروب لا تُبقي ولا تَذر، لا سيما عندما جفّت مصادر الغذاء، أو عندما غزانا الآخرون وسلبوا أراضينا، عندما أدّت المشاحنات القبلية إلى صراعات مميتة لتحديد هوية الزعيم، بمجرد اكتشافنا سطوة القوة، وأدركنا أن امتلاكها يعزز فرصة البقاء، وامساك زمام الأمور يُسكِرُنا فرحاً

كنا المسيطرات في تلك الأيام، فهذا من متطلبّات البقاء، كنا مخيفات، ونظهر ترهيبنا تجاه أي شخص يسبب لنا الحزن، من ذكرٍ أو أنثى، وصدّقونا عندما ننصحكم بالامتناع عن العبث مع الأمهات المؤسِسات، سيدات البشرية الأوائل، فالجزاء من جنس العمل، وجزاؤنا يتناسب مع شراستنا، فنحن لم نفرّ هاربات من وجه الأعداء، أو احتمينا خلف الرجال للدفاع عنا، بل كنا نبادر بالهجوم، فذلك يسري في عروقنا، فطاقة القتال الأولية رهن اشارتنا، والقدرة الجسدية ملك أيدينا

لم يكن مفهوم الأنوثة والذكورة قد وُلد بعد في تلك الأيام، واستغرقت فكرة التصرف “كسيدات راقيات” عصوراً لتصبح موجودة، نحن أول من تغوّط أينما حلّ، وتجشأ وأطلق ريحاً كما يحلو له، فالحياء وُجد فيما بعد، مارسنا الجنس متى رغبنا، ولم نرتدِ ملابس تذكر، لا جلود حيوانات ولا فروع شجر، لا سيما في البدايات، وعندما كنا نحيض، كنا نحيض واقفات

كنا متساويات مع الرجال، لكن الأمومة كبحَت طموحاتنا، عندما أصبحت التنشئة مسؤوليتنا الوحيدة، لأن الرجال أحبّوا السلطة لدرجة الرغبة في الاحتفاظ بها لأنفسهم فقط، ولكن قبل ذلك، كانت التربية عملاً مشتركاً بالتساوي بين الجميع، بين أفراد القبيلة، حتى بدأ الذكور في اكتساب مزيد من قوة العضلات وطول القامات، وافترضوا امتلاك اليد العليا، مصدرين أوامرهم إلينا للبقاء مع الأولاد، بدلاً من الذهاب للصيد من أجل العشاء، من أجل العائلة، من أجل القبيلة

قاومنا، ولم نتوقف عن المقاومة، وانتصرنا أحياناً مجبرِين الرجال على العيش في مجتمع أنثوي، وانتصر الرجال أحياناً أخرى ليجبرونا على العيش في مجتمع ذكوري، وأحياناً لم ينتصر أحد، وخرجنا متعادلين، يا له من وضع مثالي، كنا أولى المؤمنات بالمشاركة، لكن ذلك لم يدم طويلاً جراء النزعة البشرية للسيطرة على الآخر، وكان بيننا أول المهووسين بالسيطرة، والطغاة،  والمتلاعبين بعواطف الآخرين، والأزواج المعتدين، لكننا تغلبنا على كل ذلك، وتجاوزنا كل ما رمته مرحلة ما قبل الحضارة في وجهننا، فقد كنا خبيرات لا يشقّ لنا غبار في النجاة، واقتتنا على الجوز والتوت، في أيام البشرية الأولى، تحمّلنا أياماً دون ماء، وتوسّدنا الحجارة، وخضنا المخاطر، وقاتلنا الضواري، وحمينا الصغار

من حسن حظ الجنس البشري، أن الديناصورات انقرضت منذ 64 مليون سنة قبل وجودنا، فلم يكن بالإمكان التعايش معها على نفس الكوكب، فمجتمعاتنا المتجوّلة على قائمتين في السهول كانت ستصبح مقبلات بالنسبة لها، تؤكل حيّة، تؤكل نيئة

كنا أولى القائدات، أولى المدافعات عن النساء، بطلات النشوء، لكن أسماءنا لن تبقى في الذاكرة لأننا بدون أسماء، فنحن مجهولات، ولن نُرى كأشخاص لقاء انجازاتنا العالمية المذهلة في ضمان استمرار العِرق البشري، على الرغم من الفترة الطويلة التي عشناها قبل أن تنغرس الأنا في الإنسان، نريد أن تُخلّد ذكرانا لقاء ما أنجزناه، ونحزن لأننا أصبحنا مجرّد مستحاثات يعجز خيال علماء الآثار عن تصور شكل حياتنا، كيف عشنا، وكيف متنا بمختلف الطرق، من الموت بمرضٍ ما قبل طب الأعشاب، والتعويذات، وقوانين الصحة والسلامة، والأدوية، والموت بجريمة، وصراع قبلي، وأضحية دينية، عندما بدأنا في عبادة الآلهة الحية والجامدة، المرئية والخفيّة، عندما تطورت أدمغتنا بما يكفي لفهم العالم من حولنا، وتصور عالم أسمى من بشريتنا، وتخيّل جميع الكائنات العليمة التي يمكنها مساعدتنا وقت الشدّة

تزاوجنا دون حب لفترات طويلة، فلم نكن نعلم معناه، على الرغم من تطورنا إلى درجة الشعور بأحاسيس تجاه بعضنا، ما نزال نستمتع بمفهوم الحب الحديث، جميع الأغاني التي تغنّت به عندما أصبحت الصحبة والانسجام أكثر أهمية، نتفق على ذلك كلنا، فالحب مجرد شعور، ولكن نجاة العرق البشري منوطة بالانسجام

قد يبدو من الغريب اخباركم بذلك بعد كل هذه العصور، ولكن حياتنا كانت مهمّة بالنسبة إلينا، ولطالما تعرضّنا للإهمال، وسوء الفهم المفرط، ونحن الوحيدات الملمّات بذلك، وأحياناً في لقاء الأمهات المؤسِسات، وبعد تناول كؤوس الجين تونيك، نشعر بالراحة والاسترخاء تجاه صحبتنا، فنلوذ بالصمت ونعود بأنفسنا إلى عصر ما قبل الكلام، في الوقت الذي كان فيه البشر شديدي الحساسية تجاه بعضهم بعضاً، عندما كان القلب طاغياً على العقل، عندما كان ذلك كافياً، عندما كانت أصواتنا الأولى غمغمات عاجزة عن التعبير، انقضت عصور قبل أن نستخدم الكلمات، ومئات آلاف السنين لاختراع اللغة، ووضع الكلمات في جمل مفيدة، وسنين كثيرة جداً لاختراع الكتابة

تخيلوا عالماً يخلو من الكلمات الكفيلة بوصف أخيك الانسان، أو ذلك الحيوان، أو تلك الشجرة، أو الغابة، أو البحر، أو الطفل، تخيلوا عالماً لم يكن فيه كلمة تعبر عن مفهوم العائلة، أصبحنا نعرف جميع الكلمات في كل اللغات، آلافاً مؤلَّفةً منها، ولدينا معرفة غزيرة مخزنة في ذاكرتنا اللامتناهية، نحن المعرفة، ونشعر بالقلق مما يخفيه المستقبل لأننا نستغرق في التفكير فيه، وننظر إلى النجوم المتفجرة من مجتمع لم يسبق له المجاهرة بالتخيل أو التساؤل: ما الذي سيؤول إليه الجنس البشري؟ كيف سنتطور؟

نناقش مخاوفنا من أن الجنس البشري سيبيد نفسه عاجلاً وليس آجلاً، ويجفّ الكوكب ليموت مرة أخرى جراء العطش، وتذبل كل النباتات وتذوي الحياة البرية بفعل الحرارة، نخاف من أن نعود إلى أكل بعضنا بعضاً، وهو ما يحصل عندما يلجأ الجياع إلى تدابير يائسة، نخاف من ظهور أمراض جديدة يعجز العلم عن كبحها، نخاف أن ينهي البشر وجودهم جراء الحروب الأخيرة لهذه الحضارة، ربما نشهد حرباً فانية لأمراء الحروب المصابين بجنون العظمة، القادرين على إبادة البشرية، وتدمير الكوكب، نخاف أن تؤدي الشيفرات التي يضعها القراصنة إلى انهيار السيبرانية التي يعجز المجتمع عن العمل بدونها، عن طريق فيروس إلكتروني يتسبب في توقف العالم عن الإنتاج، إلى درجة تفنى فيها الحضارة التي نبحث عنها

نخاف من ضياع كل ما ناضلنا من أجله من يوم من الأيام، باستثناء أنفسنا، نرفرف في الفضاء، ككائنات شبحية لا يمكن لبشر اليوم رؤيتها أو سماعها أو الإحساس بها، بعدما فقدوا إدراكهم الحسي الفائق، وسنشعر بأسىً شديد لأن مساعينا لملابين السنين قد ضاعت سدىً، ونقرر عندها مواساة أنفسنا من خلال الانغماس في النوستالجيا، لأن سعادتنا كانت أكبر في الماضي، عندما كنا أصغر سناً، وأعظم تقديراً للحياة، وكان كل شيء جديداً

نتذكر فترة ما قبل الإنترنت والحواسيب، قبل القوانين

 قبل السيارات والطيارات والدراجات وعجلات الفارذنغ القديمة وعربات الأحصنة

 قبل المصانع، قبل السياسة والحكم الملكي، قبل المال والمنازل

قبل الزراعة، قبل فكرة العمل، قبل الزواج، قبل العبودية

قبل قيام الدول والحكومات، قبل الترف والحياة الاجتماعية

 قبل الطعام المطبوخ، قبل المنطق الإدراكي المعقّد، قبل التلوث، قبل التصنيع والتعليم والرقص والشعر

قبل القدرة على التخطيط المسبق، والتفكير فيما هو أبعد من أنفسنا

قبل قدرتنا على سرد قصصنا

قبل أن تشدو أغانينا

كنا هناك

كنا هناك

كنا هناك

 

*****

خاص بأوكسجين


روائية بريطانية (1959). صدر لها أكثر من ثماني روايات منها: "جزيرة أبراهام"" 1994، و""لارا"" 1997، و""السيد لوفرمان"" 2014. فازت روايتها ""فتاة وامرأة وأخرى"" بجائزة بوكرالعالمية لعام 2019."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: