الملياردير يزورنا على العشاء
العدد 257 | 13 حزيران 2020
حنيف قريشي


لم يعرفا أن الملياردير كان مليارديراً فعلاً حتى الوقت الذي توجب عليهما فيه طلاء جدار غرفة المعيشة.

كان شيف ولونا يركنان دراجتيهما عادة على الجدار، لذا قررا طلاء الأسطح البالية على سبيل المجاملة عندما أبلغهما مالك الشقة اللطيف أنهما بصدد تسليم الشقة نهاية الشهر.

لم تكتمل أعمال الطلاء في غرفة المعيشة، فشيف يستخدمها كقاعة درسية، ما دفع الملياردير عند رؤية المساحة البيضاء الخالية للقول: “يجب أن أهديك شيئاً ما تملأ به هذا الفراغ”، وذلك عندما وصل لمتابعة دورس تعلم أغنية فرقة ليد زبلين “عندما ينهار السد/وين ذي ليفي بريكس”.

غالباً ما تكون هدايا الطلاب عبارة عن زجاجات نبيذ أو علب بسكويت أو أكياس برتقال أو باقات أزهار، إلا أن الملياردير أحضر معه بمساعدة سائقه صورة كبيرة مؤطّرة غاية في الروعة للفنان جيمي بيج وعليها توقيع المصور.

تناولها الملياردير من السائق وسلمها لشيف قائلاً: “كي تعلقها على الجدار، مع تقديري واعتذاري عن النشاز الذي تتكبد عناء الاستماع إليه.”

شكره شيف وأسند الصورة على الجدار وأكمل الدرس. وعندما غادر الملياردير، حدّق شيف بالصورة لفترة طويلة، ونقلها بين هنا وهناك، ثم راسل الملياردير ليعبر له عن ذهوله، قائلاً بأنها أروع ما امتلكه في حياته.

يعمل شيف ولونا مدرسيّ موسيقى، حيث تدرّس لونا البيانو في المدارس المجاورة، ويعطي شيف دروسه في الشقة الواسعة التي استأجراها بثمن بخس في العام الماضي، وتعود ملكيتها لعازف غيتار يسافر في جولة موسيقية مع فرقته. حالف شيف الحظ في إضافة عدد كبير من طلاب الدروس الخصوصية من محيطه، واعتاد الذهاب إلى بيوت الشباب منهم. طلب العديد من الآباء ممن يعملون كمصرفيين وجراحين ومديرين تنفيذيين اتباع هذه الدروس، وأشاد به أحدهم أمام الرجل الذي أصبح يُعرف لاحقاً بالملياردير، الذي لطالما أحب موسيقى “ريذم أند بلوز” واحتاج إلى شخص يساعده على تحسين مستواه، إذ بدأ بالمواظبة على الدروس منذ عدة أشهر لمرتين أسبوعياً في بعض الأحيان.

تضم الشقة التي لطالما اعتنى بها شيف ولونا حديقة تجتذب الطيور والثعالب والسناجب والقطط، وتقع ضمن منطقة يقطنها الأغنياء على مقربة من منتزه وبحيرة ومواصلات مؤمنة. أُعجب شيف برحابة البيوت التي يزورها وبحبوحة سكانها، الأمر الذي يظهر جلياً جراء ما يوظّفون من عمال بستنة وتنظيف، ومربيات أطفال، ومدرّسين آخرين، ومدربين شخصيين لا غنى عنهم.

يخاطبه بعض الآباء بحدّة إن لم نقل بازدراء، كما لو كان جزءاً من “الطاقم”، وهو أمر لو تعلمون محبط، فأبوه محامٍ وأمه طبيبة من جهة، ولطالما اعتبر موسيقى الشيطان التي يعلّمها مفتقرة إلى الرقي من جهة ثانية، ووصل الأمر إلى أنه أطلق شكواه إلى لونا حول قرب استخدامه للمدخل الجانبي بناء على طلبهم.

وصلت لونا تلك الليلة إلى المنزل ورأت لوحة جديدة مركونة على الجدار الأبيض، ما أثار دهشتها البالغة لرؤية صورة جيمي بيج في أوج مسيرته الموسيقية، ثم فتحا زجاجة نبيذ وجلسا أمام الصورة لمناقشة تعليقها على الجدار المطلي حديثاً أم الانتظار حتى يجدا شقة جديدة، “إن حالفنا الحظ بإيجاد مسكن جديد أصلاً، ووجدنا مجالاً لتعليقها أساساً”، كما جاء على لسان لونا.

بقيت لونا مستيقظة حتى وقت متأخر، وعندما آوت إلى السرير، أيقظت شيف لتخبره بأنها تحمل في جعبتها أخباراً مذهلة، فقد تمخّض عن البحث الذي أجرته عن المصور أن الصورة ليست أصلية فحسب، وهو ما أدركاه سابقاً، بل موقعة أيضاً، وتبلغ قيمتها 3،500 جنيهاً على الأقل، وربما يجنيان أكثر إن باعاها. ألم تكن تلك فكرة جيدة؟ ألا يحتاجان إلى المال؟

رفض شيف بيع اللوحة، اتقاءً لمعرفة الملياردير بذلك، هذا من جهة، ولأنها ستثير حماس جميع الطلاب الذي يزورون الشقة لاتباع الدروس من جهة ثانية. وعلى كل حال، فقد سبق أن دخلت قلبه، ويعلم أنه سيشتاق إليها، وقد تكون باكورة مجموعة المقتنيات، كهواية جديدة ربما يبدآن في ممارستها، إن جنيا ما يكفي من المال لذلك.

كانت تُجري بحثاً عن آرثر، أحد طلاب سام، واكتشفت معلومة مهمة: فقد كان مليارديراً. وعلى الرغم من أنه ما يزال في منتصف الأربعينات من عمره، فقد سبق أن استثمر في التكنولوجيا مبكراً، واشترى عقارات ومطاعم، وكان أغنى من العديد من مؤلفي الأغاني والمغنين الذين عرفوهما. ماذا تقول في هذا؟

تفاجأ سام وانزعج في الوقت ذاته. ماذا أقول في هذا حقاً؟ فقد منعه كسله من استقصاء حياة الطلاب الذين يدرّسهم، ناهيك عن التطفل الذي يعتري الأمر برمته. وإن أراد أحدهم عزف أغنية “البواب أسود البشرة/بلاك دور مان” على القيثارة، ما الفارق الذي ستصنعه وظيفته؟ فرسم الدخول سيبقى على حاله.

أكدت لونا أن أمثالهما لا يمكنهما تضييع الفرص، ومن الغباء أن يصبحوا “متروكين”. قال شيف إنه لا يرى الفرصة هنا، فأجابته أن هذا متوقع منه. “ما تعنين بمتوقع؟”، “وحيال ماذا”؟ سألها، لكنها لم تكلّف نفسها عناء التفسير، فما المغزى منه إن لم يكن قد استوعب الأمر لوحده.

في المرة التالية التي حضر فيها الملياردير من أجل الدرس، لاحظ شيف أن لونا ما تزال في الشقة، تسترق السمع، وربما النظر، من المطبخ، بل إنه ضبطها تنقر رأسها في المرآة.

“إياكِ وفعل ذلك” بادرها شيف، فالأمر مربكٌ وربما لاحظك الملياردير. لا تتجسسي، فقد يظننا مجانين ويمتنع عن العودة. مهلاً: ماذا تفعلين؟

اقترب. 

تعرّت في لحظة، ومارسا الحب أمام الصورة.

بعد ذلك، لاحظَت أن الملياردير لا يرتدي أي مجوهرات، وهاتفه قديم ويرتدي قميصاً وجينزاً عاديين. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من علامات الأدب والتواضع البادية عليه، والتزامه بأداء واجبه المنزلي، إلا أنه كما يبدو يتّسم بالصرامة والقسوة مع موظفيه، فقد قدّم بعضهم شكاوى في حقه ورفع آخرون دعاوى قضائية ضده. ما مقدار فطنته وغرابته كي يستطيع تحقيق كل هذا؟ بالإضافة إلى ذلك، فقد عرفت الكثير عن عائلته، التي تشبه عائلة ديناستي في المسلسل التلفزيوني الشهير، وكذلك …

رفع شيف يده: توقفي، توقفي هنا. لا تكملي. لم يكن يرغب في سماع المزيد، فهذا بلا طائل.

إلا أنها أكملت، والأهم من ذلك أنها لاحظت الطريقة التي انحنى فيها الملياردير إلى الأمام منصتاً لشيف، مدرّس الموسيقى، باهتمام وانتباه تامين. فهو معجب به إن لم يكن يعشق فيه يديه وصوته وهدوءه. ربما يكون يحبه، أو يرغب في ممارسة الجنس معه. هل أنت متأكد من أنك لا تكنّ له أي مشاعر؟ يمكنك إخباري، لا تكبت مشاعرك. أعطني يدك ولنناقش الأمر، لنخوض فيه.

ربما هذا ينطبق عليك لونا، أليس كذلك؟ وهذا صحيح، أنا أشعر بهذا في بعض الأحيان، فأنا أحب طلابي، وافق شيف، فهم يحركون مشاعري، ويريدون شيئاً مني وأنا أريد مساعدتهم، الأمر أشبه بعلاقة تبادلية، إعجاب ربما، أو حب موضوعي، وليس مثيراً للمشاعر الجنسية على الاطلاق، ليس هكذا، كلا. فهو أقرب إلى تواصل عميق، بين أشخاص يتعاونون ويتشاركون.

مهما يكن: فشيف لديه مشاعر تجاهه، مشاعر موجودة، وهو أمر يمكنهما البدء منه، خاصة أن الطلب موجود وهما في موقع يخولهما تلبيته. سبق أن أرادت صديقتها المفضلة التي تعمل في المجال الخيري معرفة فيما لو كان الملياردير مهتماً بتعلم لغة الباشتو، أو رقصة التانغو أو حرفة التطريز أو أي وضعية جديدة لممارسة الجنس. وإن لم تبادر رفقة شيف في هذا الأمر، فآخرون مستعدون لأي شيء للوصول إليه.

أنا متأكد من هذا، أجابها، وإن كان هذا فيلماً غامضاً واعتمدنا على حظنا دون اتقاننا، يا حبيبتي لونا، سوف نخنق الملياردير ونطعنه معاً، ونستمتع بما نفعل، ثم نلّفه بسجادة، ونجرّه للخارج وندحرجه على منحدر القمامة ونشتري الشمبانيا وسيارة حمراء ونمارس الجنس. سوف نسرق هويته أو نغير أسماءنا إلى بوني وكلايد، إلا أن كل هذا لن يجعل ثورته تؤول إلينا، بل سنخسر طالباً بهذه الطريقة. لن ينجح هذا، فنحن مع الأسف نعيش الواقع.

صحيح جداً، أجابت، لقد نطقتها بنفسك، يا له من واقع ملعون مقرف فعلاً.

الحسد أسوأ، فهو شيء فظيع.

ليس كذلك ، قالت، لا يقودك إن استخدمته كمرشد إلى ما تريد،خريطة نحو المستقبل، اتجاه تسلكه، وجهة تتطلع إليها.

سألتها صديقتها المفضلة، لماذا نساعد الآخرين على التطور بينما لا نبرح مكاننا؟ لماذا يحصلون على الكثير ونحصل على الفتات؟ أليس هذا سؤالاً جيداً يا شيف؟

استرخيا واستلقيا للشرب أمام الصورة، واستطاعا رؤية انعكاسهما عليها بمجرد قلبها. تجاذبا أطراف الحديث للمرة الأولى بعد الإجهاض الذي حصل بعد فترة وجيزة من انتقالهما للشقة، خسارة ثقيلة ألقت بظلالها على رؤيتهما للمستقبل، وجعلتهما قليلا الكلام، كثيرا التفكير في كيفية الاستمرار.

خاضا نقاشاً لطيفاً حول مآل الأمور إن أصبحا ثريين، والكل يريد شيئاً ما منهما، يحيط بهما أصدقاء مثقلين بالهموم، حتى يجدا نفسيهما معزولين رفقة أثرياء آخرين. لا شك أن هذا الانعزال يناسبها. فيلا فخمة ذات مناظر خلابة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في إيطاليا، بأثاث رفيع، ولوحات قديمة، وسيراميك فاخر في الحمام، وسينما منزلية، وقارب صغير، دون الحاجة إلى القلق فيما لو كان بإمكانهما تحمل نفقاتهما.

لا يهمك سوى الماديات، قال.

أتظن ذلك؟

لا فكرة لدي، أهو تأثير صديقتك المفضلة؟ أنا أحب المال، ولكن ليس إلى الدرجة التي تدفعني للسعي جاهداً إليه. لا شك أن الجنس والمال يدفعان البشر للجنون، لكنني لم أتصور مطلقاً أنك من هذه الفئة، حتى بعد سبع سنوات قضيناها معاً. تبدين غريبة الآن، وأنا أنظر إليك بدوري بصورة مغايرة. تبدين محاطة بقشرة خارجية أمامي، ما يدفعني للتساؤل عن ماهية جوهرك.

لم أتوصل إلى فكرة إلا مؤخراً.

إلى حين ظهوره في حياتنا؟ لقد أضاف إليك، أو أزال منك أفكاراً معينة، بل فعل ذلك فينا معاً، لا يمكننا إيقاف الأمر الآن. ما هي هذه الأفكار؟

ليس هو فحسب. بل الحياة نفسها، فنحن نقترب من العقد الرابع من عمرنا. أجبني على هذا السؤال: هل سنظل بهذا المستوى طوال حياتنا؟ ماذا تقول؟ هل ترانا على هذه الشاكلة؟

ليس هناك مايستدعي الحديث بحدة ونفاذ صبر، أجابها. لنواجه الحقيقة، سوف نبقى طوال عمرنا “بهذا المستوى” ما لم يؤلف أحدنا ألبوم أغانٍ يكسّر الدنيا. لقد جربنا هذا لسنوات، لقد فاتنا قطار الشهرة والثروة. أعتقد أن بول مكارتني كان في مثل سني عندما أطلق فرقة البيتلز.

استمر الجدال لليوم التالي، على غير العادة. بدأ بحزم أمتعتهما، وبعد العمل، تسكع في الشوارع لمعاينة الشقق التي قد يستأجران إحداها، عارضاً عليها صوراً لأماكن محتملة.

سيء وأسوأ، أجابته، رافضة النظر إلى الصور كما ينبغي، ومشيحة هاتفه عن ناظريها، فهي تفضل النوم في العراء أو الموت على السكن هناك، حتى وإن كان بحوزتهما صورة جيمي بيج لتغطية العفن.

يجب علينا الانتقال إلى مكان ما قريباً، نوّه. لا يمكننا الهروب من حقيقة اضطرارنا إلى مغادرة هذه المنطقة، وسيتوجب علينا استخدام المواصلات العامة للمجيء إلى هنا. سوف نخسر طلابنا، لأنهم لن يرغبوا في القدوم إلينا خوفاً على حياتهم، ولكن ما بيدنا حيلة، يجب علينا الاستمرار.

كانت تعايره بأشخاص يعرفهم. والد أحد الأصدقاء كان سيبيع لوحة، وعمة آخر تركت له منزلاً في فينسيا أو الأرياف، وآخر باع روايته الأولى في هوليوود. كان في جعبتها جميع أنواع القصص، وأرادت قصة لنفسها. لماذا بحق الجحيم ليس لديهما قصة لعينة؟

شيف، افتح عينيك وانظر حولك حبيبي، يمكننا بالكاد رؤية السماء جراء الرافعات فوق رؤوسنا، هناك العديد من الشقق الجديدة المذهلة بشرفات رائعة، وقوانين تمنع بناء بوابات عالية حولها. قد يسمحون لنا بالدخول إليها لإعطاء الدروس ربما، لكننا لن نسكن فيها على الإطلاق. لمن هذه الشقق؟ لماذا لا تكون للمتعلمين العاديين أمثالنا؟ نحن نخسر مكاننا. لقد وصل الأمر بك إلى العزف على الغيتار في بار في إحدى الليالي، ويفاجئني أنهم لم يطلبوا منك تقديم المشروبات وغسل الصحون. أنا أحبك لكنني أكره رؤيتك على هذا النحو. هل أصبحنا رعاعاً الآن؟

ليس تماماً، أجابها بصبر قائلاً أنهما وعلى الرغم من شكاويهما البسيطة، إلا أنهما الزوجان الأكثر حظاً على الاطلاق، فهما، على خلاف الكثيرين، يشتغلان فيما يحبان، ويمتلكان ما يكفي من كل شيء، بصرف النظر عن بعض النواقص. هناك دائماً من يمتلك أكثر، فلماذا التفكير في الأمر أساساً؟ هل تحسدين بيل غيتس؟ لا شك أن الملياردير كان منزعجاً أيضاً، سام يعلم ذلك. فالمال لا يشتري الموهبة، ولطالما تمنى الملياردير أن يقف على المنصة تحت الأضواء لعزف أغنية منفردة كجيمي بيج، لكنه لن يفعل هذا في حياته.

هل هو غافل، سألته. ألم يلاحظ أي شيء فيها، بأن الكره بدأ يتسرب إلى قلبها تجاه عملها، وسرعان ما سيغتال روحَها القيامُ بالأمر ذاته يومياً مع أناس عاديين مع إلزامية التزلف. لماذا لا يستطيع استيعاب استيائها؟ لم يكن حسدها مربط الفرس، بل افتقاره إلى الطموح والأمل، الوقود الذي يبقي جذوة الناس في أوجها.

شعر بالإهانة. ما الذي يمكنهما فعله سوى عيش حياتهما؟

ما الذي يمكنهما فعله؟ لديها العديد من الأفكار.

أعطني مثالاً؟

توقف عن المغالاة في الأدب والتهذيب ولجم النفس.

وما الغرض من ذلك؟

بدايةً عليه أن يتحلى بالانفتاح وطرح وضعهما للنقاش مع الملياردير الثري الذي إن امتنع، دون سبب، عن منحهما جزءاً من ثروته عندما لا يؤثر الأمر عليه البتة، فبإمكانه ببساطةٍ أن يساعدهما على الإثراء ولو قليلاً، حيث يمكنه تقديم الاقتراحات، فهو لا بد متخمٌ بالأفكار الجيدة والمخيلة الواسعة. ما الذي يثنيه عن مساعدتهما؟ هذه الخطوة ستكون نقطة البداية، ويمكنهما البناء عليها، ويمكنها أن تخبر شيف كيف يبادره بالأمر.

أطلق سام العنان لضحكاته، التي لم يستطع كبتها، الأمر الذي أثار غيظها حتى قالت له: إن تجرأت على القول مرة أخرى أننا سعداء لأننا نحب بعضنا بعضاً ونحب عملنا، سوف أطرحك أرضاً، هل سمعتني؟ أنا مقتنعة تمام القناعة بهذا، وأريد تغيير الأمور الآن. كنت لطارحته الغرام –

لطارحته الغرام؟

نعم، على الأرجح، لمَ لا؟

لمَ لا؟

ألم تكن لتفعل ذلك؟

لا.

إلا أنك ترغب في الفرجة، أليس كذلك؟ عرفت ذلك.

لم ينبس ببنت شفة، وهي بدورها غادرت المنزل. عجز عن إيجادها وبدأ القلق يتسرب إلى قلبه، ولم يكن بمقدوره البحث عنها نظراً للدروس التي ينبغي عليه إعطاءها.

عندما كان الملياردير يحزم غيتاره ويستعد للرحيل، انسلّت لونا إلى الغرفة بغتة مرتدية أفضل ملابسها، وطوقت الملياردير بذراعها وقبلته، وأجزلت في شكره على الصورة.

خطرت في بالها فكرة دعوته على العشاء نهاية الأسبوع المقبل، مع ثلة من الأصدقاء المقربين. هل ستأتي؟ ستكون اللمة لطيفة على بساطتها. أرجوك أن تأتي.

نعم، أود ذلك، سيكون هذا لطيفاً جداً، في غاية الكرم والذوق.

أصبح الأمر محموماً عندها. أعدّا قائمة قصيرة لطاقم الأصدقاء المدعوين، تضم زوجين آخرين وامرأة عزباء لتعديل الكفة. وكان أول من دعيا للحضور زوجان قد يثيران الإعجاب، وليس الاعجاب المبالغ فيه، لكنهما رفضا من فورهما. لم يعد المليارديرية رجالاً بدناء يحملون سيجاراً ضخماً، ويرتدون أطقماً فخمة، ويختالون يتعجرف ظاهر. إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون نذلاً استغلالياً، حتى وإن عمل فعلاً مع الحيوانات الضارية.

كان من ضمن النساء العزباوات واحدة مندفعة. كان بإمكانهما بيع تذاكر حضور هذا العشاء وملء الأماكن المتوفرة عن بكرة أبيها وربما بث الأمسية مباشرة على العلن، لكن لونا أصرت على أن يكون الحاضرون هادئين ومرموقين، دون فسوق يتسبب في إحراجهما. وفي واقع الأمر، أرادت أن تعرف ما سيرتديه الجميع. وانتهى المطاف إلى اختيار صديقتها المفضلة، التي لم تدّخر إلحاحاً ولا استجداءً، ما دفع شيف إلى الإذعان أخيراً.

استغرق العشاء البسيط، الذي أسمته لونا “الاستثمار”، ثلاثة أيام من التحضير، حيث تصفحا كتب الطبخ وجالا الأسواق، واشتريا الشموع والمناديل والنبيذ الفاخر، ونظفا المنزل ولمّعا الأواني، وناقشا الموسيقى المناسبة مطولاً. اقتربا من الإنهاك التام قبل موعد العشاء، لا سيما من الناحية المادية، ليقول شيف أن العشاء الأخير لابد كان أبسط.

*

بعد انقضاء كل شيء، انهارت لونا. ورفضت النهوض لثلاثة أيام مفكرة فيما حصل. وكان سام يجالسها عندما لا ينهمك في حزم مقتنياتهما ضمن الصناديق، يا له من منظر محزن. كانت تعاني من حمى خطيرة أثناء تفكيرها فيما يشبه الأحجية، سيستغرق الأمر بعض الوقت.

في أمسية العشاء، أحضر الملياردير، الذي دائماً ما يتحلى بالدماثة، أزهاراً وحلوى البودينغ، بينما أحضر الآخرون نبيذاً ومثلجات. تخلل العشاءَ حديثٌ محببٌ عن المعارض والصالونات والمسرحيات.

راقبته لونا قدر استطاعتها، وأدركت أن الملياردير قلما التزم الصمت، الأمر الذي يلفت الانتباه، حيث أخذ في طرح الأسئلة على الآخرين، ليبقي النقاش دائراً. وعندما يجيء دوره بالكلام، يتشدّق ابتذالاً. أوعزت لونا إلى صديقتها المفضلة التي أصرت على الجلوس بجواره-ووافقت لونا على ألا يكون في حجره- أن تسأله عما إذا كان يعرف شخصاً قد يكون مهتماً بتمويل مدرسة لتعليم الموسيقى، ليجيب بأنه لا يعتقد أنها فكرة سيئة، لكن المدارس ليست ملعبه، فهو متمرد ترك الدراسة مبكراً.

مع اقتراب الأمسية من نهايتها، تجرأ أحد الحضور الذين أعمل السكر فيهم وسأله عما إذا كان يعلم عن أي استثمارات فتّاكة، تناسب الفقراء في القاع. ضحك الملياردير، قائلاً أن أعقل الأمور يتمثل في إيداع الأموال في بنك عادي، وعدم محاولة القيام بأشياء مثيرة بالمال، وإنما التحلي بالهدوء فقط.

وعلى حين غرة، أعلن شيف والملياردير عن عزف أغنية “ذاهب إلى كاليفورنيا/غوينع تو كاليفورنيا” على غيتارين، وعندما انتهيا منها، صفق الجميع طالبين المزيد، لكنها كانت الأغنية الوحيدة التي تدربّا على عزفها معاً.

اعتذر الملياردير وغادر، متذرعاً بضرورة استيقاظه باكراً للسفر إلى إفريقيا، حيث يعمل على توسيع أعماله الخيرية. وعبّر عن استمتاعه بالطعام والرفقة، وسعادته أنهما أحبّا الصورة كثيراً.

تجمهر الجميع أمام النافذة لمشاهدة سيارته السوداء تغادر شارعهم.

كيف يجرؤ؟ قالت لونا أمام الجميع. لا أستطيع تصديق هذا. ستحظى الطيور النادرة بفرصة تناول الكافيار، ونحن نحصل منه على كعكة! هذا كل ما يقدمه إلينا بعد كل ما فعلناه من أجله.

عزيزتي لونا، قال سام، ما الذي زرع هذا الأمل الزائف في عقلك، فما من شيء كان سيتمخض عن كل هذا. تفكير طفولي بحت!

اصمت أرجوك، أجابته. دعونا ننسى كل هذا. لنشغل الموسيقى، بعد أن أخلع عني هذا الحذاء! أيها الجمع الكريم، لنرقص ونشرب الآن، فشيف يقول أننا نحتاج إلى عيش اللحظة، وإن لم تكن هذه هي اللحظة، فمتى إذن!

 تمخض شيء فعلاً. فقد اعتادا على اختصار الكلام عندما يكونان في السرير. إلا أنها بدأت في استخدام اسم الملياردير، ومشى شيف على خطاها. أصبح الملياردير محفزاً للفحش، وكان موجوداً معهما، يثيرهما هنا وهناك، بخشونة.

*

 لم يعد أمامهما في الشهر اللاحق سوى ترك الشقة والانتقال جنوب النهر، إلى قبو تتمترس نوافذه بقضبان حديدية، ضمن منطقة قذرة وخطيرة، يبقيهما صخبها مستيقظين طوال الليل. كان عدد الطلاب أقل، ومن المكلف شراء أثاث جديد.

أسوأ ما حصل، وربما الأسوأ كما يقول شيف، الذي قض مضجع لونا هو أن الملياردير دعا صديقتها المفضلة في موعد غرامي، وليس هذا فحسب، بل بعد إخبارها للونا بذلك وخروجها معه، رفضت صديقتها البوح بأي شيء عن الملياردير: هل أحبته، هل ستراه مرة أخرى، لا شيء على الاطلاق، ولا كلمة واحدة، بل احجام تام، ما كلّف لونا خسارة صديقة.

واصل الملياردير الحضور للدروس، وكان يعمل مع شيف على أغاني “هولينغ وولف”. كان تطور الملياردير جيداً، حسب ما قاله شيف، أثناء جلوسهما تحت صورة جيمي بيج. كان ذكياً فعلاً.

عبّر الملياردير عن رغبته في تأسيس فرقة بلوز للهواة مع أصدقائه، للعزف في الأمسيات الموسيقية المخصصة للأغراض الخيرية، وتساءل فيما لو رغب شيف في عزف الغيتار وإنتاج الموسيقى معهم، فهذا سيكون دفعة عظيمة إلى الأمام.

——————————

من مجموعة قصصية بعنوان What Happened? “ما الذي حدث؟”، صدرت للكاتب العام الماضي 2019 عن “فايبر آند فايبر”.

*****

خاص بأوكسجين

 


روائي وقاص وسيناريست انجليزي (1954). من رواياته: "بوذا الضواحي"" (1990)، و""الألبوم الأسود"" (1995)، و""الجسد"" (2003)، و""الكلمة الأخيرة"" (2014)، وغيرها الكثير من روايات ومجموعات قصصية وسيناريوهات ومسرحيات."