المسرح العربي وبريشت
العدد 184 | 16 كانون الأول 2015
حوار مع عادل قرشولي


يعتبر عادل قرشولي واحداً من أبرز شعراء ألمانيا المعاصرين. ولد في دمشق عام 1936. وغادر سورية عام 1959 إلى بيروت، ثم إلى ألمانيا وهو يقيم في مدينة لايبزغ منذ عام 1961. حصل على الدكتوراة عن أطروحة حول مسرح برتولت بريشت. وعمل من عام 1969 حتى عام 1993 أستاذاً محاضراً في جامعة لايبزغ. ثم تفرغ للكتابة. يكتب باللغتين العربية والألمانية ويترجم عنهما. شغل منصب رئيس فرع اتحاد الكتاب الألمان في لايبزغ. ترجمت قصائد له إلى لغات عدة. ومنح عدة جوائز، منها جائزة “مدينة لايبزغ للأدب”، وجائزة “أدلبرت فون شاميسو”. من مجموعاته الشعرية: “عناق خطوط الطول”، و”لو لم تكن دمشق”، و”هكذا تكلم عبدالله”، و “الخروج من الذات الأحادية”فيما يلي مقتطف من حوار مطول أجرته معه أثير السادة يتحدث فيه عن بريشت ومسرحه

___________________ 

 

– لنبدأ بسؤال عريض جدا وفضفاض ..ماذا بقي من بريشت وصرخاته وارثه المعرفي والأيدلوجي على مستوى التجربة المسرحية العالمية؟

لا شك انه معك حق حين تقول إنه سؤال كبير وفضفاض وبسيط في نفس الوقت، ولكن ما بقي من بريشت يمكن أن أجيب عليه بتساؤل آخر هو ما بقي من شكسبير مثلا أو ماذا بقي من أي كاتب آخر ..أو أي مخرج آخر..عادة ما يكون هذا الأثر متشعبا إلى درجة كبيرة. ليس بالضرورة أن يكون تأثير كاتب من الكتاب على كاتب آخر في ذات اتجاهه ..فالتأثير يكون في أحيان كثيرة تأثيراً مضادا.. في رأيي – وهذا رأي شخصي كأحد المهتمين ببريشت – إن المسرح المعاصر برمته تأثر ببريشت بهذا الشكل أو ذاك.  لكن المسرح البريشتي الحقيقي كما يراه بريشت هو مسرح متكامل فكريا وجماليا، غير أن الجانب الفكري قلما لقي تأثيره عند كثير من المسرحيين، أما الجانب التقني، أي جانب تجديد المسرح كمسرح،  فأنا اعتقد أننا لا يمكن أن نفهم المسرح المعاصر بكامله دون العودة إلى بريشت. 

 

– هل نفهم بان تلك الرغبة في تجاوز المعمار البرجوازي للمسرح، والبحث عن وظيفة جديدة للمسرح في محاولة التحرر من النزعة التطهيرية هي ما بقي من بريشت في تجربة المسرح الحديث، كما نرى في كثير من الأحيان تجاوزا لشكل العلبة الإيطالية وللبناء التقليدي للحبكة الدرامية في تجارب المسرح الحديث.

المنجز الكبير لبريشت في اعتقادي هو انه فتح المسرح على كل الأشكال ..فأصبحت كل الأشكال ممكنة في المسرح ..ولم يعد للمسرح أطر محددة ومغلقة تحبسه بداخلها..لقد ذكرت أنت عملية التطهير، وأنا أرى انه حتى المسرح المعتمد على التطهير أحيانا يتأثر ببريشت .

بريشت كمنهج لم يفهم كما أراد له بريشت أن يفهم، خاصة   في المسرح العربي..بدءً بمسألة المصطلح، إذ أطلقت على مسرحه في الترجمة العربية صفة المسرح الملحمي. اعتمد من استخدموا هذا المصطلح لغوياً على جذر مصطلح “الايبوس” أي الملحمة  بينما استخدم بريشت مصطلح “ايبش” ويعني بالألمانية السرد، /الحكي /القص ..من هنا كان أول خطأ ورد عندنا في فهم بريشت. أدى بحد ذاته إلى مغالطات كثيرة في نظرتنا إلى نظريته في المسرح.

 

– هذا يدفعنا إلى السؤال عن الكيفية التي تلقت فيها التجربة المسرحية العربية الوعي الحداثي عند بريشت ..وما إذا كنا استوعبنا تلك الإشارات والنتاجات بنحو خاطئ كما يشير بعض الدراسيين ..هل هذه حقيقة تجدها في تجربة المسرح العربي تحديدا؟

لا استطيع التحدث بإيجاز في هذا الموضوع لأنني اشتغلت فيه لسنوات طويلة بحثا ودراسة باللغة الألمانية وأنجزت فيه بعض الدراسات باللغة العربية أيضا..لكننا نستطيع أن نقول إن من قلنا أنهم تأثروا ببريشت ولنذكر مثلا سعد الله ونوس والفريد فرج أو يوسف العاني و روجيه عساف، لم ينقلوا بريشت حرفيا. وكان ذلك انجازهم الخاص..لان النقل الحرفي لأي تجربة هو نقل خاطئ ..فأنت لا تستطيع أن تنقل تجربة من منطقة حضارية إلى منطقة حضارية أخرى، بكل حَرفيتها ..عليك أن تبتدع مسرحا من واقعك ..ومن هنا كان تأثير من ذكرت من أسماء وآخرين طبعا هو تأثير توصل إلى كثير من الإبداع .

حدثت الأخطاء عند تقديم بريشت للمسرح العربي أو عند التنظير لبريشت في النقد العربي ..بدءاً من مطالع الستينات وتحديدا بعد 1964 في مصر، حيث انطلق من عرض القاعدة والاستثناء بالقاهرة ..هذه المسرحية تنتمي إلى الفترة المتوسطة من حياة بريشت الإبداعية. والفترة المتوسطة هي ما يطلق عليها المرحلة التعليمية..ومن هنا بدأت معالم الفهم الخاطئ لبريشت ..

 

– أشرت إلى اتصال التجربة، أي تجربة مسرحية أو نظرية أو منهج، بإطارها الثقافي ومحيطها الحضاري ..ولعلنا نتساءل  أن كان ممكنا  أن نقتطع تجربة كمسرح بريشت من مناخها المعرفي -وهي تجربة اقرب إلى تلك المناخات-، من اجل الإفادة منها دون النظر إلى جذورها وامتداداتها الفلسفية ..هل يكفي إصرارنا على القول بأنها تجربة إنسانية وان ما فيها يمكن اختباره وتبنيه …النزعة التغريبية وهدم الجدار الرابع والتركيب الجدلي للشخصية ..هل في استعارة هكذا تقنيات ما يفيد في إيجاد مسرحنا الذي نتأمله لذات الزمان والمكان واللحظة التي نعيشها؟

لقد وضعت إصبعك على الجرح ..ألا وهو سوء الفهم الأساسي ..أي إرجاع المنهج البريشتي الفلسفي والمعرفي إلى أدوات وتقنيات شكلية لا علاقة لها بجوهر المسرح البريشتي في مرحلة نضوجه. 

كانت هذه الأدوات، التي استخدمها بريشت بالفعل في بداية صياغته لنظريته المسرحية وبشكل خاص في مسرحياته التعليمية، بسيطة  وربما كانت لذلك اقرب إلى تصورات من تصدى لمسرح بريشت آنذاك  ليقدمه إلى المسرح العربي. ولكن لنأخذ على سبيل المثال مفهوم بريشت عن ضرورة إيجاد علاقة جديدة بين خشبة المسرح أو الركح من جهة وبين الصالة من جهة أخرى.  لا تقتصر هذه العلاقة الجديدة التي كان يبحث عنها  على تقديم مسرح دون ستارة أو جعل الممثل يتجه إلى الجمهور ليخاطبه مباشرة برفع الإصبع التعليمي أو تحويل الصالة إلى مقهى أو إدخال الممثلين إلى خشبة  المسرح عبر الصالة وهم يرقصون  ويقرعون الطبول ويغنون أو إلى ما هنالك . للمخرج الحق بأن يستخدم إن شاء هذه الأدوات في العرض. وقد استخدم بريشت بعضها في مسرحياته التعليمية على وجه الخصوص في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينات من القرن الماضي. غير أن الإقتصار على استخدامها  في مناسبة وغير مناسبة بعشوائية كلية دون توظيف هذا الاستخدام فكرياً وجمالياً  قد يحول المسرح إلى عرض فولكلوري لا غير. وهو بذلك لا يبتعد عن مفهوم بريشت حول العلاقة الجديدة المتوخاة في رأيه بين خشبة المسرح والصالة بل ويتناقض معه كلية. 

هذه العلاقة هي علاقة فلسفية بالدرجة الرئيسة..بريشت أراد أن يحول أو لنقل أن ينقل ذات التاريخ وأداة التغيير من خشبة المسرح إلى الصالة ..التساؤل الذي طرحه على نفسه وعلينا هو أين تحدث عملية  التغيير المنشودة من منظوره…هل ينبغي أن تحدث على  الخشبة من خلال الحدث المسرحي..من خلال الشخصيات ..من خلال سرد الحكاية ..أم ينبغي أن يحدث التغيير في الصالة، في أحاسيس وفي فكر المشاهد، بحيث يدفعه إلى المساهمة الفاعلة في عملية التغيير. هو بهذا لا يريد له أن يتطهر، وفق المصطلح الأرسطي، حين يرى التغيير قد حدث على الخشبة، بل يريد أن يكشف له آليات العلاقات البشرية في الواقع من منظور القدرة على المساهمة في تغييرها.

هذه النقلة الجوهرية في مفهوم المسرح والتي أدت إلى التفكير بأسلوبية سرد الحدث وبناء الشخصية المسرحية وأسلوبية اختيار مفردات العرض المسرحي برمتها لم تفهم للأسف الشديد في ما قيل انه مسرح بريشتي، خاصة في بدايات التلقي العربي لمسرح بريشت كما أسلفت..لان أكثر من كتبوا عن بريشت في تلك الفترة  اعتمدوا إما على مقال موجز أو على كتاب تعليمي أو دراسة تنطلق من مفهوم مغاير إن لم نقل مناهض لمسرح بريشت ومفاهيمه..من هنا لم يتمكن هؤلاء في تلك الفترة من قراءة حقيقية لفكر بريشت وفلسفته التي انطلق منها لصياغة نظريته المسرحية.

 

– في هذا الإطار، هل بإمكاننا أن نعد تجارب مسرح الرفض في أمريكا اللاتينية، ولنقف عند تجربة مسرح المقهورين، بأنها امتداد ايجابي وأنها تشربت الكثير من تجربة بريشت وأنها لم تسقط في فخ الاستنساخ والحرفية في النقل؟..هل من تجربة ورثت النزعة البريشتية يمكن أن نشير إليها بالبنان؟

هنالك مفهوم خاطئ عن التأثر ..أنا ككاتب كيف أتأثر بكاتب آخر ؟..هنالك نقل حرفي لتجربة أخرى ليست تجربتي وهذا يقودني إلى أن أتحول إلى مقلد، إلى منفذ لا إلى مبدع ..وهنالك تأثر حقيقي وتمثل لهذا التأثر وخلق شيء منطلق من هذا التأثر .. لا شك انه هنالك في تجربة أمريكا اللاتينية  إبداعات كما فيها سقطات كثيرة ..وهذا عائد إلى الكيفية التي نحول بها هذا التأثر إلى شيء خاص بنا..كتبت في الشهر الماضي مقالا في مجلة تصدر عن متحف بريشت في مسقط رأسه بأوغسبورغ عنوانه طريقي الطويل إلى بريشت ..كانت الأطروحة الأساسية فيه هو إني وصلت إلى بريشت حين تمكنت من التخلص منه، واعتقد أن هذه هي  الجدلية الأهم في قضية التأثر .

 

– بريشت كان بمثابة ثورة في جانب النظرية الدرامية ..هل من ثورات أخرى قادمة أم انتهى زمن الثورات النظرية أو التغيير الجذري في جانب المسرح والدراما.

كتبت في أطروحتي في عام 1970 إننا نخطئ إذا ما وضعنا بريشت آلها أمامنا..ليس هنالك من تجربة مسرحية يمكن اعتبارها نموذجا وحيدا في العالم ..الشيء المفرد والأحادي هو بالضرورة إلى زوال. الاعتماد على النموذج الواحد هو توقف عن الحياة ..ولذلك يبدو بريشت مصدرا مهما على صعيد المسرح، غير انه بالتأكيد ليس المصدر الوحيد..نعم، لا توجد بعد بريشت الآن تجارب بهذا الحجم وبهذا التأثير الواسع في تاريخ المسرح المعاصر ..ولكن لهذا أسباب أخرى ..كان بريشت بالفعل بمثابة ثورة في المسرح المعاصر. ولكنه ينبغي ألا ننتظر دائماً وأبداً قدوم ثورة ما لكي نضع قدماً على عتبة التغيير. لأننا قد نؤجل بانتظارنا هذا أو قد نجير كل تغيير إلى انفجار ثورة ما. علينا البحث عن التغيير كذلك في إطار الممكن. ولا يمكننا أن نفعل ذلك إلا إذا تفهمنا آليات هذا الممكن للتمكن بالتالي من استنباط ما يمكن أن يكون ثورياً في إطار هذا الممكن.

إننا في اعتقادي لم ندرس في عالمنا العربي على سبيل المثال بما فيه الكفاية قضية التحدي الذي نواجهه جراء هذا الانفجار الهائل الذي حدث في وسائل الاتصال الجماهيرية بهذه الحدة  وفي هذا الوقت القصير، وتأثير هذا التحدي على حياتنا بكل مجالاتها ومنها المشاريع الثقافية.. ولو درسنا ذلك بتأن وواقعية ودون عصابية لتوصلنا إلى ضرورة البحث كذلك عن صيغ جديدة  وعن دور جديد  للمسرح. ولن نتوصل إلى التعرف على ملامح هذا الدور دون البحث عن جمهور مغاير وتحديد ملامح هذا الجمهور الذي يتمكن من تقديم إغناء ما إلى المشروع الثقافي العام في ظل هذه السطوة الإعلامية الجديدة… مازلنا نتحرك في أطر تنتمي أحياناً إلى مفاهيم الخمسينات والستينات. ومازلنا نعتقد أن التأثير على الوعي الجمعي السياسي والاجتماعي والروحي لا يمكن أن يحدث إلا بالوصول إلى ما نسميه الجمهور العريض من خلال هذا المسرح. ولكن من هو يا ترى هذا الجمهور العريض الذي نريد أن نصل إليه؟ ما هي بنيته؟ كيف تحدث عملية التأثير فيه؟ في أي اتجاه؟ لو أحصينا من يحضرون لمشاهدة مجمل عروض مهرجان مسرحي عربي ما لما تجاوز عددهم ربما ثلاث مئة أو مئتي شخص ..وقد يقول قائل إن من يحضرون إلى مثل هذه العروض هم قلائل وهم في أغلب الأحيان نفس المشاهدين مع تنوعات طفيفة. وأنا أقول: ولم لا؟ من هم هؤلاء القلائل؟ وهل هم بالفعل كذلك أو لنقل هل سيبقون كذلك إن قدمنا لهم ما يريدون أن يشاهدوه حقاً؟ وكيف يقاس دورهم في عملية التأثر والتأثير المنتظرة في المشهد الثقافي العام؟ من هذا المنظور لا يقاس هؤلاء بمقياس الكم. فهم ينتمون في معظمهم إلى من لهم علاقة بالمشروع الثقافي العام. وهم ليسوا مسرحيين وحسب، بل قد يكون بينهم موسيقيون، وفنانون تشكيليون، وكتاب، وصحفيون، وموسيقيون، ومدرسون وإلى ما هنالك. ولعلهم جاؤوا طائعين لأنهم يتشوقون لأن يشاهدوا ما لا تقدمه لهم الشاشة الصغيرة خلال وجبة العشاء. أليس لهؤلاء الحق أيضاً في أن يشاهدوا مسرحاً يريدون هم مشاهدته، مسرحاً يمكن أن يتأثروا به بهذا الشكل أو ذاك، ومن ثم ينقلون ما تأثروا هم به من خلال تجاربهم الخاصة إلى آخرين؟ هذه الدوائر في عملية التأثر والتأثير لا نلتفت إليها في تنظيراتنا بما فيه الكفاية.

غالباً ما ننطلق في تعريفنا لما نسميه الجمهور العريض من منظور ما نسميه جماهيرية المسرح الذي ينعت بالتجاري، وهي تسمية ينبغي النظر فيها أيضاً. وأنا أرى أنه علينا البحث عن جمهور مغاير لمسرح مغاير. ينبغي ألا نسعى لأن يكون هذا المسرح الذي نبحث عنه البديل الأوحد في المطلق للمسرح التجاري السائد، لأن لهذا المسرح جمهوره ومن هنا تنبع مشروعيته. وحين أتحدث عنه، إن فعلت، علي الإنطلاق من معطياته والحكم على نجاحه وفشله في إطار هذه المعطيات.  أقول هذا لأنني أتمتع بقدر لا بأس به من الواقعية. وعلينا أن نؤمن بالتعددية، بالتعايش، بالتكامل، بالتراكم. ولكنني أطمح لأن يكون لنا كذلك مسرح مغاير لهذا المسرح الذي يسعى إلى اختطاف الجمهور من التلفزيون. ولا يتعدى طموحي هذا ضرورة أن يستخدم هذا المسرح المغاير مفردات مغايرة وأن يتوجه إلى مخاطب مغاير وأن يصوغ لنفسه دوراً مغايراً لا يتمثل في محاولة الوصول إلى ما نسميه الجمهور العريض كيفما اتفق، بل يتمثل في محاولتنا تقديم إغناء معمق ما للمشهد الثقافي المحدد، وبالتالي للمشروع الثقافي العام. فنحن حين ننطلق من منظور المسرح السائد ومن مفرداته ومن دوره الترفيهي بدرجة رئيسة  لخطف جمهوره العريض منه، قد نضطر للوقوع في فخ استخدام مفرداته وخطابه والدخول في اللعبة الترفيهية المجردة  لمنافسته، وهي أمور يتقنهما هذا المسرح أكثر من إتقاننا لها وبإمكانه الهبوط بها ما شاء تمشياً مع هبوط الذائقة العامة.

_______________________________