الفراري
العدد 141 | 15 آب 2013
وائل مقصود


العصفور الرمادي الذي كان يحلق على ارتفاع منخفض كان هارباً من الخدمة العسكرية.

هو لا يعرف ما نوعه، أو إذا كان أساساً مصنفاً ضمن نوع وفصيلة باسم لاتيني، هو لا يعرف أساساً أن بعض البشر كانوا قد قرروا أن يصنفوا كل الأحياء تحت أسماء لاتينية معقدة ليميزوا بينها، وأنهم اختاروا اللغة اللاتينية للحفاظ على سرية التصنيف، الذي لا يفقه فيه سوى من يتقن هذه اللغة، أنا أتدخل و أذكر هذه المعلومة التي لا يعرفها العصفور بالطبع، لأننا إذا قررنا أن نستمع إلى هذه القصة منه فقط لكانت سخيفة جد أو بلا معنى واضح، فهو عصفور في النهاية.

هو عصفور رمادي من عصافير المدن، التي تقف على أسلاك أعمدة الكهرباء دون أن تتأثر بالتيار الكهربائي، وذلك يعود لقاعدة فيزيائية لن أشرحها لكم الآن.

إذاً العصفور الذي كان يحلق على ارتفاع منخفض، العصفور الرمادي الذي كان هارباً من الخدمة العسكرية،كان يهرب ولا يختبئ لأنه عصفور، والعصافير لا تستطيع الاختباء، عليها دوماً أن تتقافز من مكان إلى آخر، إلا إذا كانت نائمة طبعاً، فإنها ستغدو ظريفة جداً، حين تنفش ريشها وتخفض رأسها بين كتفيها وتنام. العصفور الرمادي الهارب من الخدمة العسكرية لا يستطيع النوم، هو مضطرب جداً و خائف حيث أنه يعاني من الأرق، وهذه مشكلة أيضاً، إذ أن النهار يغدو طويلاً جداً و الليل ممل حقاً ومرهق، لا يستطيع أن يصادق أحداً من العصافير الأخرى كي يسهروا سوية،إذ أنه لا يثق بهم، ويخشى من أن عصفوراً ما سيبلغ عنه ليقبض عليه ويساق إلى الجبهة مباشرة.

هذا الكلام مضحك بحد ذاته إذ أن البلاد ذاتها هي الجبهة، كان يظن مسبقاً أن الحرب هي جبهة، والجبهة هي هضبة صفراء، يجلس خلفها الجنود و يصوبون بنادقهم إلى هضبة أخرى صفراء أيضاً.

الآن ما عاد يعرف ما الجبهة، ربما هي تشبه الآن ورقة صفراء أيضاً مكرمشة و مجعدة.

العصفور الرمادي الذي كان يطير على ارتفاع منخفض كان لايجد طعاماً كافياً ليأكله،رأى عصافير أخرى تقتات من جثث لكنه لم يستطع بعد كسر ذلك الحاجز.

أحياناً كان يحاول أن يمارس العادة السرية ليرهق نفسه و ينام، أو على الأقل ليخفف شيئاً من التوتر، لم يستطع أن يمسك عضوه بريشات جناحه، في النهاية هو عصفور والعصافير لا تمارس العادة السرية أصلًا.

في أحد الأيام قضى ليلته في حاوية للقمامة، وحين رمى طفل كيس القمامة الأسود طار العصفور هلعاً _ظنها مداهمة للقبض عليه_ وظن الطفل أن العصافير تعيش في حاويات القمامة وليس في أعشاش مبنية في الأشجار، وتأكد من أن المعلمة كاذبة، وأن كل كتبه المدرسية كاذبة.

العصفور الرمادي الذي كان يطير على ارتفاع منخفض كان هارباً من الخدمة العسكرية، وكان مجنوناً، لأن العصافير لا تستدعى للخدمة العسكرية، العصافير تموت في الحرب فقط، حتى أنه يقال إن لها دستوراً سرياً يتألف من بند واحد، إنه على كل العصافير أن تهجر بلاد الحرب وتبتعد عن  كل الجبهات، أكانت هضبة صفراء أم كانت ورقة مجعدة.

العصفور الرمادي الذي كان يطير على ارتفاع منخفض، وكان يظن نفسه هارباً من الخدمة العسكرية، كان يظن نفسه أيضاً طائرة حربية، ولهذا كان يطير على ارتفاع منخفض، ويصدر أصواتاً تشبه صوت القنابل حين ترمى أو الصواريخ حين تطلق.

العصفور الرمادي، عصفور المدن الأحمق، الذي يقف على الأسلاك الكهربائية ولا يتكهرب، لأن التيار دائماً مقطوع، العصفور الذي يجهل اسم فصيلته باللغة اللاتينية،كان مجنونا ومختلا عقلياً، لذا تم إعفاءه من الخدمة العسكرية.   

_______________________

كاتب من سورية

الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: