العزوف عن الوردة
العدد 186 | 12 كانون الثاني 2016
سومر شحادة


بين القصص التي أسمعها، القصص التي يتبرع أصحابها بسردها، أو تلك التي ألتقطها من الناس الغرباء في الشوارع، فإنّ أكثر ما يدفعني إلى تأمل مصائر السوريين، هي النهايات المأساوية لقصص حبهم. حتى بت أشعر، بأنّ الحبّ دخل مفاهيمًا جديدة في هذا البلد، أقول هذا البلد، لأنّه لم يتح لي العيش بالشكل العنيف والصاخب للحياة إلا فيه. وربما هذا هو حال الحب في الكوكب الذي ينحو إلى الظلمة، عمومًا. من يدري؟! من يملك جوابًا واضحًا وجليّا عن مستقبل الكوكب؟ ولو أنّك من أنصار المقولة المثيرة التي تنتصر للحب في فيلم الخيال العلميinterstellar) )! 

لقد صار هذا المكون الطبيعي من النفس، شأنًا مصيريًّا، يُحمّل أكثر مما يحتمل، ما يجعله عرضةً للفشل المدوي والمحق. اليوم، يحتاج الكثيرون للحب، من أجل الدفاع عن إدراكهم لآدميتهم. لكن هل يستطيع الحب تحطيم جميع الأقفاص التي وضعوا السوريين بها؟ 

إنّنا حيوانات في نظر رجل الأمن، وقطيع من وجهة نظر السياسي، إنّنا كرجال، كلاب بنظر النساء الجريحات من الحب. كلاب في العمل، في الطريق، عند الأفران، محطات الوقود، شعب التجنيد. والأسوأ والأمر الكارثي، إنّنا حيوانات بنظر بعضنا البعض. يقول شاب جالس خلفي تمامًا في المقهى، محاولًا إقناع شريكته بشركٍ ما، أخمّن أنّه الوقت الذي سيقضيه معها، قبل أن تجبره (المنافي) على (نسيانها) :” وليش لروح عَ الموت؟ في ناس خلقت لتموت، في ناس بتستاهل تموت، أنا بقدر ساعد البلد بثقافتي وشهاداتي.” لربما هذه أكثر اللحظات المصيرية التي كنت أتمنى أن أكون رجلًا آخر، لربما كان عليّ أن أنهض وأضربه حتى أدميّه، لكنني لم ألتفت حتى، لقد خفت أن يكون صديقًا لي. والأنكى من ذلك لقد خفت من منطقه الدقيق، لكن غير الأخلاقي في رؤيته لحياة الآخرين. هل المطلوب من المنطق أن يكون أخلاقيًّا؟! 

في الكتابة، كنتَ تجد أنّ مقارنة الوردة بالسلاح أمر ينم عن بساطة في التعاطي مع اللغة أولًا، ثمّ مع كلّ من السلاح والوردة. إنّ ذلك يشبه معادلة رياضية من الدرجة الأولى. السلاح والوردة، الحسناء والوحش،.. ما يدفعك إلى رفض هذه المقارنات، هو أمر حياتي بحت، إذ لطالما كنت تجد الوردة سلاحًا بذاتها، فكيف تقبل وضع السلاح في وجه السلاح؟ لحظة، لحظة، أليس في ذلك مقارنة مبطنة، معادلة من الدرجة الثانية؟ في الرياضيات أيضًا، كلّ المعادلات المعقدة نعود بها إلى معادلة من الدرجة الأولى لكي نجد الحل! 

وأنا جالس على الأريكة بالاسترخاء المعتاد، بالبرود الحديدي ذاته، باللامبالاة التي تشكل نقيض الحب. أنظر باتجاه الأريكة المقابلة، فأجد نفسي أمشي بينهما، رغم أنّني ما أزال جالسًا، رأيت أحدًا يشبهني، ورحت أتأمله باستغراب شديد: 

أقطع شارع أنطاكيا وأدخل قسم شرطة الشيخضاهر للتبليغ عن هاتفي المسروق. خائفًا إن كنت سأخرج، بعد عملية “التفييش” بالرغم من أني لا أفعل شيئًا هنا، سوى الكتابة والسعي الحثيث لحياة تشبه الحياة. عند حاجز المخفر سأقول ليزن الحاج “إذا طولت جوا.. فوت شوف شو القصة؟” وليضحك يزن ضحكة الأطفال تلك، الضحكة الهازئة بكلّ شيء، الضحكة الهادئة التي تجبرك على الطمأنينة رغم قسوة زمان سورية هذا والذي نعيشه آسفين، وليقول “ولا يهمك،.. ” طبعًا لن أهتم يا يزن، ولا يمكن أن أهتم طالما أنت ستبقى في الخارج. لكن لم أقل له هذا، وها أنا أكتبه. 

أنهض الآن عن الأريكة، وأكسر الظلال التي شكلتها الخطوات المفترضة إلى الأريكة المقابلة، ثمّ أجلس مثل قطّ مدلل! 

____________________________

كاتب من سورية

الصورة للفوتوغرافي الأمريكي Mitch Dobrowner

*****

خاص بأوكسجين


روائي وكاتب من سورية. من رواياته "حقول الذرة"" 2017rn"