الطريق إلى حلب
العدد 258 | 17 تموز 2020
زياد عبدالله


من أين تهبُّ هذه الرائحة؟

تلك المرأة أعرفها ولا أعرفها! تعانقني وتقبِّلني. تغادر وتتركني مع تلك السمراء. هي شقراء وتلك سمراء، وهذه الأخيرة تبقى بجانبي، تناولني الدواء، حبَّة تلو أخرى، الفطور تُعِدُّه، وتختفي ما أن تعود الشقراء لتتولىَّ إعداد الغداء والعشاء.

ثمَّة رجل أعرفه ولا أعرفه! لا يعانقني ولا يقبِّلني، لا! لقد فعل ذلك مرَّة أو مرَّتين. يستيقظ باكراً. أسمعه يغنِّي أغنيَّة لا أفهم حرفاً واحداً منها. أتبع الأُغنيَّة، فأجد المغنِّي أمام مرآة ومغسلة وعلى وجهه رغوة بيضاء. يرتبك. يهمهم كلمات لا أفهمها. أقول:

 “آسفة!”

لقد تكرَّر ذلك أكثر من مرَّة. لمَ هو مُصِرٌّ على أن يفعل هذا بي؟

توقَّفْ! توقَّفْ!

قلتُ ذلك أم لم أقل، لا أعرف! لكنني ما عدتُ أقول له “آسفة!”

يبدو لي أنه مدير هذا النُّزُل، وهو الوحيد الذي لا أفهم ما يقوله، يتكلَّم لغة أجهلها تماماً، لكنَّ كلَّ مَنْ هم معي يفهمونه، ويهتمُّون بكلامه كثيراً، الشقراء والسمراء. وثمَّة فتى وفتاة، الفتى أكبر من الفتاة وأطول من المدير، هذا يعانقني كثيراً، لكنْ ليس بأكثر من تلك الصغيرة التي تكاد تخنقني من كثرة عناقها، لكنها غير مهذَّبة، نعم غير مهذَّبة، عليها أن تقول “آسفة!” كما أفعل، فهي تصرخ ما إن تفتح باب النُّزُل “جدَّتي جدَّتي!” تَجفُلُني وتعتصرني! وأنا للحقيقة أحبُّ مَلمَسها عليَّ، وأنسى أمر تهذيبها ولا أطالبها باعتذار. اعتصارها لي يستخلص منِّي بهجة وحناناً.

ماذا عليها أن تكون إن كانت تناديني “جدَّتي”…آه هذا يعني أنها حفيدتي، وهي تنادي تلك الشقراء “ماما”، فإذن هذه الأخيرة ابنتي، نعم هي تقول ذلك! شيء مذهل! يضعونني في نُزُل أو فندق أو لا أعرف ماذا؟ كل شيء فيه غريب عجيب، ويطالبونني أن أكون أُمَّاً وجدَّةً، وأنا لم أتزوَّج أصلاً!

ثمَّ مَنْ قال “الوطن ليس فندقاً”؟! هذه العبارات تطفو في رأسي، وتبقى معلَّقة هكذا عارية من دون مقدِّمات، ومن غير أن تكون مسبوقةً بشيء، أو ملحقةً بشيء، لا بأس.. لا بأس! لقد أصبحتُ متأكِّدة من أنني لستُ في وطني أصلاً، فأنا في فندق أو نُزُل أو لا أعرف ماذا؟ والشقراء تقول لي كلما أخبرتها برغبتي بالعودة إلى بيتي أن المسافة بعيدة جداً، وأحتاج طائرة لأفعل! لابد أنها تكذب عليَّ. من أين تأتي تلك الرائحة إذنْ ما لم أكن في مدينتي؟ طائرة لأصل بيتي! هذا كثير!

سأتولىَّ الأمر بنفسي. ما زالت عظامي قادرة على إيصالي، وبيتي ليس بعيداً!

السمراء في المطبخ ولا أحد من النزلاء هنا!

بضع درجات، ثمَّ الباب الحديدي. هذا ليس فندقاً ولا نُزُلاً ولا وطناً ولا شيء.

طالعتني تلك الرائحة الأليفة، كنتُ أعرف أنها تنتظرني في الخارج.

سألحقها.

اللهمَّ بك أستعين وعليك أتوكَّل.

 

***

تسبقني الرائحة، أمضي خلفها.

 البيوت وقِرْمِيْدُها الأحمر نيام. السكون تامٌّ لولا زقزقة العصافير. الهواء عليل. الشمس تُربِّت برقَّة على وجهي.

لا أحد سوى بضع درَّاجين وعدَّائين، بعضهم يلقي التحية بلغة لا أفهمها، فلا أبالي وأقول:

“صباح النور”.

أخرج إلى شارع عريض جدَّاً ما رأيت مثله من قبل، أحسب السيَّارات ستطير من سرعتها في الاتِّجاهَين. المهمُّ الرائحة ما بهتت ولا وهنت، سأتبعها وأصل.

ربيِّ اِشرَح لي صدري، ويَسِّرْ لي أمري، يا كريم، يا الله.

الشارع لا ينتهي، وأنا أمشي على حافتَّه، وعلى يميني أشجار كثيفة تخفي ما خلفها، وعلى يساري سيَّارات لا ترأف حتى بالإسفلت.

 مرَّت سيارة قريبة منِّي لدرجة كانت ستُطيّرني معها.

 أمشي وأمشي، وكلُّ شيء على ما هو عليه، لا شيء سوى السيَّارات الطائرة.

الشارع لا ينتهي. الشمس قاسية، مؤلمة، تفجُّ رأسي. الهواء أقلُّ، وحدها السيَّارات تحرِّكه، عسى السيارات تفعل شيئاً حيال الشمس، أكاد أذوب، هل لها أن تحرِّك أشعَّتها أيضاً؟ أشعر بأنها مخصَّصة لي أنا وحدي، هذه الأشعَّة عصا غليظة مسلَّطة عليّ، وهي بالتأكيد لا تستطيع اللحاق بمَنْ هم في السيَّارات، ولهذا هم مسرعون. ما من سبب آخر يجعلهم مسرعين سوى ذلك؟

الرائحة ستقودني لا محالة! هي رائحة بيتي، خرجتُ منه واستدعتني! صبراً جميلاً، يا سعاد، وبالله المستعان.

تكاد عظامي تخرج عن جسمي، كلُّ ما أريده أن أستريح، سأمضي نحو الأشجار، سأدع لها أن تبتلعني.

أحمدكَ يا الله سخَّرتَ لي الأشجار؛ لأجلس في ظلِّها، وأسنُد ظهري إلى جِذْع واحدة منها، وصوت السيَّارات الطائرة يسفع كل شيء، يشتت شمل الظلال.

أنهض وأمضي عميقاً. الأشجار تتكاثف، وكلَّما مضيتُ أكثر يخفُّ صوت السيَّارات المتوحِّشة، الأشجار تروِّضها، وها هي قد أخمدتْها تماماً. أسنُد ظهري إلى سنديانة، السكينة تهدهدني، أغمض عينَيَّ.

 

***

 

أفتح عينَيَّ.

أين أنا! مَنْ رمى بي هنا!

أتضوَّر جوعاً، بالكاد أتلمَّس طريقي.

أتعثَّر وأواصل. أمشي وأمشي. اصطدم بشجرة. أمشي وأمشي. والشمس تغيب، وتُوقِظ أصوات كائنات تستعدُّ لليل.

إلى أين؟

اللهمَّ بك أستعين وأستجير.

أخيراً خرجتُ من الأشجار. العتمة حالكة. ثمَّة أضواء في البعيد، أضعها نصب عينَيَّ وأمضي نحوها. كلَّما اقتربتُ أكثر تصاعدت الرائحة: بيتي.. رائحة بيتي.. هذه ليست حلب! كيف لها أن تكون حلب؟

أدخل متجراً من المتاجر المضاءة، أقول للرجل فيه:

“مساء الخير”.

يشير بيده أن أخرج ويهمهم كلمات مثل كلمات مدير النُّزُل. أخرج مسرعة. أين أنا يا ناس؟

أقصد متجراً بجانبه. أسأل صاحبه:

“كرمال الله وين أنا؟”

يجيبني بكلمات صاحب المحل الأول وكلمات مدير النُّزُل نفسها. يخرج من خلف طاولته ويفتح لي الباب. أخرج ولا يجيبني وأنا أردد:

“قلّ لي بس وين أنا؟”

أقصد مطعماً في نهاية صفِّ المتاجر اللئيمة. أجلس إلى طاولة وما إن يأتي النادل لا أنطق بحرف معه، أُخرج ألف ليرة هي كلّ ما معي وأعطيه إيَّاها. ينظر إليها باستغراب، ثم يهزُّ رأسه ضاحكاً:

“سورية.. حافظ الأسد هاها”

“نعم .. نعم..”

يتركني ويمضي. سرقني اللعين! أُكابِر على آلام مفاصلي وأنهض لألحق به، فإذا به يعود ومعه رجل آخر يقول لي وفي يده الألف ليرة:

“مرحبا حجّة!”

“أهلين يا ابني! أنت حلبي؟”

“نعم خالة!”

“تعرف كيف أذهب إلى بيتي؟”

“شو العنوان؟”

“والله نسيت، في فرن أبو عبده، تعرفه! ولَّا اِتِّصل بزوجي أحسن، رَقْمه 4484844 عنده محل ببستان كليب، البيت لا أتذكر محلَّه، أتذكَّر رقمه 2309743 إن شاء الله يكون عمر بالبيت!”

حسبي الله ونعم الوكيل، صار الحلبي يحكي مع النادل مثل البقية. اسكتي يا سعاد، جميعهم يتكلَّمون بما لا تفهمين! الحمد لله ها هو يعود ويحدِّثني بالعربي:

“معك تليفون؟”

“احكِ من تليفونك، وخَلِّ الألف معك!”

يبتسم ويقول:

“طيَّب في شي معك غير الألف؟”

“لا تكفي؟”

“نبِّشي جيوبك خالة؟”

أخرج له ما بجيوبي طالما أن الألف هي كلُّ ما أحمله، وأضعه على الطاولة: سُبْحَتِي وورقة. يأخذ الورقة ويفتحها، ويبتسم من الأُذُن إلى الأُذُن كأنه عثر على عشرة آلاف ليرة. يُخرج تليفونه ويمضي يتنقَّل بناظرَيْه بين الورقة والتليفون. معه تليفون الملعون لماذا لم يتَّصل بالبيت ولا محلّ أبو عمر؟

 يمكن ظلمته، فهو يخبر مَنْ معه على التليفون بأنني معه أنا “الخالة”. لا! أنا الحجَّة. ياه، ما أحلى الحجّ، أحلى أيَّام عُمُري، أنا وأبو عمر نطوف حول الكعبة، يا حبيبتي يا الكعبة.. يا الله لا تأخذ أمانتك قبل أن أزور بيتكَ من جديد أنا وأبو عمر، اللهمَّ آمين.

يضع الشابُّ أمامي طبقاً، فأهُمُّ بأكله من دون أن أعرف ما فيه. أحمدكَ يا الله حمداً كثيراً.

ياه، هذه مها! متى أتت؟ يا روحي يا مها! تعانقني وتجهش بالبكاء وأنا أستدعي دموع العَالَم كلِّه. تقبر عظامي، مها.. مها .. ومعها مارك، وهذه زينة وهذا يزن ويا روح روحي، كبرا، يا فرحتي! يا بهجتي! يا دموعي!.. أحمدك، يا الله. تعال يا أبو عمر وشوف من هنا! يجتمعون عليَّ جميعاً ويغمروني، تعال يا أبو عمر وشوف أحبَّتَكَ، نوَّروا حلب.

“متى أتيتِ حلب يا روحي؟”

تنهمر دموع مها. وهل بدموعها تجيبني! أسألها:

” ما بكِ؟”

“أنت بألمانيا يا ماما!”

“بألمانيا! مستحيل!”

“نعم يا حبيبتي!”

“أين أبوكِ؟ مستحيل أن أسافر من دونه؟ معقول أن أترك عمر وحده في حلب؟”

تنهمر دموع مها. وهل بدموعها تجيبني! هذه المرَّة أكثر من السابقة، تنهمر وتشهق:

“ما بك، يا روح الروح؟”

“لا شيء لا شيء!”

“طيب اتَّصلي بعمر، خلِّيني أحكي معه؟”

ما بها! ما الذي فعلتْ بها الغربة؟ كلما سألتُها شيئاً استزادت من بكائها! واللهِ، هذا مارك ابن أصل، ضروري يقول لها يكفي بكاءً، أخذها بعيداً ليُوقِفها عن هذه الدموع العجيبة. هذه ورثة من خالتها، الله يرحمك يا هند كنتِ تبكين أكثر ممَّا تأكلين وتشربين.

أنا في السيَّارة الآن. حبيباتي زينة ويزن بجانبي، يسندان رأسَيْهما عليَّ. مارك يقود السيَّارة ومها إلى جانبه، ما زالت تبكي، الله يصلحها:

“لماذا لم تتَّصلي بعمر؟ طيِّب اتَّصلي بأبوكِ، إذا كنتِ لا تريدين التكلُّم مع عمر!”

تلتفتُ نحوي ولا تقول شيئاً. غريب، واللهِ غريب:

“لماذا لم تتَّصلي بعمر؟ طيب اتَّصلي بأبوكِ..”

لا تجيب.

“ما بكِ يا مها؟ لماذا لا تريدين الاتَّصال بهما؟! عمر أزعجك بشيء؟”

“لا يا ماما لا لا ..”

“عمر بخير؟ في شي صار؟”

وصارت تردَّد “عمر ..عمر” وتبكي، ومارك يحكي معها بلغته العجيبة، وهي تجيبه أيضاً باللغة نفسها، وصار يُربِّت على كتفها، ثمَّ أمسك يدها، وصار يهزُّها، فالتفتت إليَّ وقالت:

“ماما يا روحي، لا بابا ولا عمر بحلب. أبي توفىَّ، الله يرحمه، من ثلاث سنين، وعمر آه يا عمر-” وصارت تكزُّ على أسنانها لمّا نطقت اسم أخوها ثم مررت تليفونها ورأيت نفسي وأمامي عمر مسجى وأنا أقول:

أوِيْهَا، بدِّي غنّي وقبلي ما حدا غنَّى

أوِيْهَا، والحبيب ما بيستنَّى

أوِيْهَا، وريتكْ يا عمر بالسَّمَا تتهنَّى

أوِيْهَا، تظلّ شهيد غانم، ويروحوا العِدَا عنا

أوِيْهَا، روح يا ظالم، وخلِّي عطر عمر معنا

الله معك، يا ابني

الله معك، يا حبيبي ..

 

***

 

أتساءل للآن ما الذي نطقت به ابنتي، ما الذي أرتْني إيَّاه؟

 لابدَّ أن الغربة لحست عقلها، وقسَّت قلبها، وهي لم تفعل شيئاً سوى إعادتي إلى ذلك النُّزُل، نعم النُّزُل نفسه، وعادت امرأة تشبهها تعانقني كلّ يوم، وتتركني لامرأة سمراء لا تشبهها، وكذا مَنْ يشبه مارك عاد يغنِّي في الحمَّام، والفتى والفتاة يعانقاني على أنهما زينة ويزن، وكلهم مجمعون على أنني في ألمانيا، وأنا أشمُّ رائحة الخبز، رائحة خبز أبو عبده، رائحة بيتي.

ولم يتغير شيء سوى أن تلك العبارات لم تعد تطفو في رأسي، وساد صوت صباح فخري بلا منازع، وهو يغنِّي: “يا رايحين لحلب، حبِّي معاكم راح …يا محمِّلين العنب تحت العنب تفَّاح… كل مين وليفو معو وأنا وليفي راح…يا ربيِّ، نسمة هوى تردّ الولف ليَّ…”

 

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.