السيد “حلال وحرام”
العدد 261 | 14 تشرين الثاني 2020
إيناس العباسي


 

السيد “حلال وحرام” لا يتبول واقفاً.

كان يافعا حين استمع لحكم التبول قائما في إحدى خُطب يوم الجمعة، ومن يومها التزم بعدم التبول واقفا سواء كان في البيت أو خارجه.

 

السيد “حلال وحرام” وبعد طلاقه قرر أن يصاحب امرأة من جنسية أخرى. نصحه زملاؤه من الجنسيات العربية الأخرى بالفلبينيات. فهن نظيفات في فروجهن، طيّعات في طبعهن ويسهل إقناعهن. إذا ما أحبت الواحدة منهن فهي تفعل كل شيء لإرضاء حبيبها، كثيرات منهن التحقنا بدروس مخصصة للأجانب الراغبين في الالتحاق بالإسلام.

 

 أصبح التعرف على فلبينية، هدف حياته. في المرحلة الأولى سيعمل على إيقاعها في حبه ثم سيقنعها بدخول الإسلام. لكن السيد “حلال وحرام” كان لا يجيد مهارات الحديث عامة ولا مهارات الحديث مع النساء خاصة. وليتعرف على فتاة فلبينية نصحوه بالسهر في أحد بارات المدينة ومن المستحسن أن يكون باراً في منطقة شعبية.

 

في بداية الأمر حاول السيد “حلال وحرام” خلال غزواته الجديدة الجلوس إلى طاولة خالية من الشراب ولكنه فهم أنه  للتعرف على إحداهن مهما كانت جنسيتها، عليه أن يجالسها ويدفع  ثمن شرابها، بيرة أو اثنتان على الأقل. وللتقرب من “أنيتا” قرر التغاضي عن حكم مجالسة شارب الخمر. ثم ما هي البيرة؟ مجرد شراب شعير  أضيف إليه القليل من الكحول وفي نهاية الأمر لم يكن هو شاربه.

 

أمل أن ينتهي من الأمر برمته ويتوب. يوقع “أنيتا” في حبه وتدخل دين الإسلام على يديه وهكذا سيبتعدان معاً عن طريق المعاصي. يحلم بالثواب الذي سيكسبه هو شخصياً. سيتمكن من إدخال شخص إضافي للدين الحنيف وسيحمي نفسه من الفتن ويغذي جسده الجائع.

 

لكن طريق توبته طال وأصبح  السيد “حلال وحرام” يجلد نفسه بانتظام. بعد كل مرة يضعف فيها ويضاجعها أي كل ثلاثة أشهر تقريباً، كان يسحب حزامه الجلدي الأسود ويُعاقب نفسه بنفسه.

 

 في البداية كان جسدها متشنجاً ثم أصبح طيعاً بين يديه. مرر يديه على جسدها وهي نائمة غير مصدق بأنه امتلكها بهذه البساطة. ولكن هل امتلكها حقا؟ كم رجلا سبقه؟ كم رجلا دخلها وغرق في مائها؟ لا يعرف إن كانت قد استمتعت وبلغت نشوتها لم يفكر في هذا إلا صباحا. لكنه لم يكن يرغب لا في معرفة الإجابة ولا  إعادة التجربة إلا إذا تزوجا وهكذا يكفر عن ذنبه وذنبها. عليه أن لا يفكر في الرجال الذين سبق وعاشرتهم.  قدّم لها كتبا باللغة الفلبينية تشرح وتبسط  الإسلام. تلقت الكتب بنظرة لا مبالية أشعرته بالغباء. ما الذي توقعه؟ هل توقع أن تقول الشهادتين وبعدها بأيام  تتحجب وتؤدي صلواتها الخمس يومياً؟ بعد ليلة  أو اثنتين بين ذراعيه، هكذا وبكل بساطة. ومع ذلك أقنع نفسه بأن مهمته نبيلة وليست مستحيلة خاصة وقد سبق ونجح غيره في تحقيقها. سيشيد به كل من يعرفه، وسيحظى بالثواب الالهي وبزوجة صالحة، طيّعة ومطيعة. عليه فقط أن يتحلى بالصبر ويغير وسائله. لكن “أنيتا” أعادت له هديته بعد أيام قليلة من الليلة الثانية والأخيرة التي قضياها معا، لقد فكرت ملياً واختارت العودة لحبيبها السابق.

  سحب الحزام الجلديّ وجلد نفسه. عشرون، ثلاثون، خمسون  جلدة.

لم يتجرأ في البداية على الاقتراب من سجادة الصلاة. لكنه لاحقا  ركع وسجد مرات لا تحصى.

في الماضي حين كان يعمل في شركة “ايريس للخدمات التقنية” كان السيد “حلال وحرام” يحب الإصغاء إلى ترتيل القرآن خلال ساعات العمل لكنه كان يحب أيضا الاستماع للموسيقى الكلاسيكية حين يعود من العمل مساءا بعد صلاة العشاء. بعد انتهاء ساعات الدوام لم يكن يعود للبيت مباشرة بل كان يظل في المكتب بين صلاة المغرب وصلاة العشاء. ما الفائدة من العودة للبيت؟ يجلس ليعمل أو ليحادث نساءا بالميسنجر قبل أن يتوجه للمصلى الملحق بالمبنى حيث تقع الشركة. يحب البقاء في المصلى فهو مكيّف وكثيرا ما تأخذه غفوة عين بين صلاة الظهر وصلاة العصر ويبرر لنفسه بأنه سيعوض الوقت المختلس من ساعات عمله ببقائه مساءا والعمل في الساعة والنصف التي تفصلُ بين صلاتي المغرب والعشاء.

 

يا للحياة الصعبة التي يعاني منها السيد “حلال وحرام “فعلى الرغم من  أنه بعد كل وضوء يجفف قدميه مطولاً إلا أنه يعاني من “بو ذَبيح” مؤلم. فطريات تتشكل بين أصابع القدمين ويعاني منها الكثير من المصلين، لذا فهو لا يتذمر ويعرف بأنه ليس استثناءا. ويعتبر قدرة تحمله  دليلا على إيمانه وتقواه.

 

يوم طلاقه توجه السيد “حلال وحرام” لشارع الرقة في المنطقة القديمة. بزبيبة الصلاة فوق جبينه، وقميص صلاته  الأزرق الذي خاطه خصيصا لصلاة الجمعة ولصلاتيْ العيد، سلك أقصر الطرقات التي توصلها إلى هناك. احتفالا بحصوله على وظيفة جديدة رفع دعوة طلاق على زوجته. وفي نفس اليوم قرر الاحتفال في شارع الرقة ليلا.  حين دخل للمكان قال متجهما “أريد امرأتين، واحدة مثل بيونسيه”.نظرت إليه المرأة التي تدير المكان بعدم فهم. “أريد امرأتين لا واحدة، افريقيتان”.

 

لطالما اشتهى أن يجرب الجنس مع امرأة سمراء، يتخيلها دافئة عكس زوجته السابقة. لكنه حين دخل للغرفة المؤثثة بسرير فقط ولمبة ضوء خافتة، تراجع أمام عراء المرأتين ولم يستطع النظر لأي واحدة. تجمد في وقفته لدقائق قليلة. قبل ان يفتح باب الغرفة ويخرج راكضا. بدا له وكأنه سمع ضحكاتهن خلف ظهره.

 

ومع ذلك حين سيعود للبيت سيجلد  نفسه.

 

 في السنة التي سبقت طلاقهما، كثيرا ما صدته زوجته في السرير. كان يقضي ليله أمام شاشة الحاسوب  في قاعة الجلوس. بيده اليمنى يمسك الكمبيوتر المحمول وبيده اليسرى يلهو. كان يداعب نفسه بينما تنام هي في الغرفة المجاورة. منذ أصبح عاطلاً عن العمل أشعرته بأنه كان عالة عليها. كان انتقاله للخليج صعبا فهو وصل بتأشيرة على كفالتها ولم يجد عملا. مع مرور الوقت واستمراره في تلقي ايمايلات الرفض وعدم توفر شغل، جلس هو في البيت وواصلت هي العمل. شكّل  فقاعة تحميه، كان ينظر إليها من دون أن يراها ويستمع لكلامها من دون انتباه ومع مرور الأشهر لم تعد قادرة على اثارته.

 

كانت قد وصلت للبلاد والتحقت بالعمل قبله بعد أن رشحتها الشركة التونسية التي كانت تعمل بها للعمل في فرعها بالخليج. استأجرت بيتا قريبا من مقر عملها الجديد. لم تكن تعود لتناول الغداء معه. كان يقضي النهار وحده في البيت لذا فقد كان باستطاعته أن يلهو مع نفسه. كان يعتقد بأنها لن تنتبه للأمر إلى أن عادت ذات يوم  في غير موعدها فوجدته على الأريكة يداعب قضيبه بينما كانت امرأة تتعرى على الشاشة قبالته.

 

كان لديه  ملف كامل سماه “حديقة البهجة “، سجل فيه عشرات الصور ومقاطع الفيديو. أغلب الصور كانت للمغنية الأمريكية بيونسيه. وكثيرا ما كان يغمض عينيه متخيلا جسدها فوقه. منذ أصبح يعيش تحت سقف زوجته وأصبحت هي التي تصرف على البيت وعليه، لم يعد قادرا على الانتصاب. يتعلل كل ليلة خميس بأنه مرهق فتسخر منه: “مرهق من عدم صنع شيء طيلة النهار؟”

 

يهرب من كلماتها ويفتح ملف “حديقة البهجة ” ليشاهد مئات الصور ومقاطع الفيديو التي حملها من الانترنت. يتأمل النهود والمؤخرات، يتغذى على الصور ويستيقظ  حيوان صاخب بداخله، حيوان حر وسعيد بحريته.

 

كان وحيدا ما من امرأة بجانبه لا سمراء ولا بيضاء. هل كان هو حقا من تسلل إلى شارع الرقة بحثا عن فتاة ليل؟ هل كان هو من دخل للشقة المفروشة. بالأمس حين دخل للمكان لم تكن الإضاءة حمراء  كما توقع، كما لم تكن القوّادة سمينة أو عجوزا متصابية. كانت سيدة  أربعينية رشيقة، أبعدت عن فمها  بأناقة مبسم سجائرها الرفيع كي تُكلمه. كان شعرها أشقر بلون التبن ولم يتلاءم مع لون بشرتها ولا مع لون حواجبها السميكة. ربما كانت تضع باروكة، ربما كانت امرأة أخرى في الحياة العادية.

 

حين خرج  أبصر في حديقة البيت المواجه للمبنى، أرجوحة معلقة بين شجرتين. كانت الأرجوحة الفارغة تتمايل ببطء في الفراغ. بحث بعينيه عن طفل ما، لكنه لم يلمح سوى ألعاب بلاستيكية تناثرت هنا وهناك على العشب الغير مشذب. نظر للبيت وتخيل الحياة الموجودة  خلف زجاج وجدران ذلك البيت.

 تخيل  الأب الذي يجهز نفسه للذهاب للعمل في الصباح و الأم التي سوف تجهز الإفطار والطفل الذي سيستيقظ متحمسا ربما للذهاب للمدرسة.

تخيل الحياة التي لا يمتلكها هو.

 

رفع رأسه فلمح على سلك الكهرباء قبالته غراباً. نظر إليه ثم  تقدم للأمام مترددا، توقف لثوان ثمّ استدار وقرر أن يغير طريق عودته المألوف.

 

____________________________________

 

من مجموعة قصصية قيد النشر بعنوان “السيد حلال وحرام، يحلم”

 

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتبة وشاعرة ومترجمة من تونس. من اصداراتها شعراً "أسرار الريح"" 2004، و""أرشيف الأعمي"" 2007، وفي القصة ""حكايات شهرزاد الكورية""، وفي الرواية ""اشكل"" 2015، و""منزل بورقيبة"" 2018."