الروائي في عزلته
العدد 228 | 10 آذار 2018
أحمد الفخراني


1

عندما يرن جرس الباب، لا أفكر إلا في احتمالين: الموت أو المجد الغائب.

ماذا لو اختزلت حياتي كسطر في صفحة حوادث: “لص خائب، يقتل مُسنا، ظنا أنه يخبىء ثروة، فلم يجد سوى مائة جنيه ومكتبة” أي خيبة أمل ستصيب كلانا.

 ببطء، تحركت من الغرفة إلى الباب متكئا على عصاتي. لا أحد يزورني سوى ولدي والخادمة، وكلاهما يملك نسخة من المفتاح.

ماذا لو كان مرسال تكريم، لأعظم روائي حي؟ عندما تملك الوقت ويستبد بك اليأس، ستعزي نفسك بهذا التخيل المبهج يوما بعد يوم. كبسة بن فوق جرح يسيل بالإهانة.

في الطريق إلى الباب سقطت مرتين، واستغرق وصولي عشرة دقائق كاملة. فتحته، لم أجد أحدا.

2

لم يعد الصحفيون يذكرونني، آخر اتصال تلقيته من أحدهم كان قبل عشر سنوات، من شاب صغير السن، يجري تحقيقا عن الأدباء المنسيين، فأمليته خبرا:

“انتهى الأديب العالمي فرج الكفرواي من الرواية الأخيرة لخماسية توازي في قوتها ما أنتجه أدباء العالم وتتواصل مع تراث الإنسانية العميق بندية” ارتبك، فأغلقت الهاتف.

أعلم أن الخبر لن ينشر، كنت أُبلغ مجتمع الأدباء حين يذكرون الأمر كنادرة، أن رؤيتي لنفسي لم تهتز.

إن كان ماركيز يملك ماكوندو، فأنا أملك قرية ميت مزاح، كتبت عنها بإخلاص، اكتشفته قبل أن يعرفوه بعشر سنوات على الأقل وقبل أن يستبدلوه بموضات أخرى. عندما مات أقمت له صوان عزاء في القرية، فكرت في ثلاثين رواية منسية وبكيت بكاء مرا. ما يجعلني أخشى الموت، هو تلك الخفة التي تستمر بها الحياة بعده، كأن لا هدف لها سوى أن يستمر الحفل الصاخب.

3

صحوت على ضجيج مكنسة كهربائية. صرخت في الخادمة. اعتادت نوبات غضبي، وعرفت أن علاجه التجاهل. لا تمانع تحرشي بها، لكن قضيبي يعود أدراجه بلا حصاد.

هاتفت ابني علاء:

“أرغب في الخروج إلى المقهى”

اعتاد أن يصطحبني بسيارته كل خميس من القرية التي أقضي فيها أيام عزلتي إلى مقهاي المفضل المنصورة.

لم أكترث لرده المتذمر: “ليس الموعد المتفق عليه” أغلقت الهاتف في وجهه، سيأتي مرغما حتى لا يكسر كبريائي. لا يعرف أنه قد حُطم منذ زمن، لو لم يأت، سأبدأ في عتابه، ثم أضغط عليه عبر مونولوج طويل عن حرماني من فسحتي الوحيدة، إن لم يستجب، ستفاجئه قدرة مدفونة على التوسل.

4

منذ أن سألني علاء: من أين تأتي بالحكايات يا بابا؟ وعلاقتنا تتخذ أشكالا معقدة، من الاتصال والدعم، ثم النفور ومحاولة التكيف مع عجوز يشعر بالمرارة.

أول جمهور حكاياتي، كان علاء طفلا. فلم أكن قد هجرت الشعر إلى أرض الرواية بعد. رغم أن نصف ما حققته، كان لقدرتي على الحكي شفاهة في المقاهي والندوات. كنت مستمعا جيدا أيضا، أصم الأذن عن الغث، وأنتبه فقط إلى ما أشعر أنه يستحق السماع. لكن ما أن أمتلك ناصية الحديث، حتى يتحول الناس إلى أطفال في حضرة إله.

الإله؟ أنظر إلى مكتبتي الشاسعة. كل تلك المعرفة المخيفة والنافذة لم تنقذني من جذوة الحيرة. لم أفكر في أمر الله بجدية إلا في الشيخوخة. يستمد الروائي شعورا غامضا بالعظمة من الألوهة وغريزة الالتحاق بالأبدية. وربما مآساتي هي أني لا أرغب أن أكون مجرد كومبارس في رواية الله الكبرى، هل تلاعب بي؟ هل قصد تهميشي لأسباب درامية؟ أم أني سارد حياتي الحقيقي، وأنا الملام الأوحد على هذا النسيان.

 

5

ميزت صوت سيارة علاء المتهالكة. بعت سيارتي وأعطيته كل مليم استطعت تدبيره، ليفتتح صيدلية صغيرة في المدينة. لا تربح كثيرا، لكنها تعيل عائلته وشيخوختي غير المتطلبة. تدفع فاتورة الإنترنت الذي لم تعد لي حياة سواه.

لعلاء شامة صغيرة في خده الأيمن. تميزه عني. مررنا معا بصباحين، واحد وهو في السابعة من عمره، يحاول أن يرسم لي شامة مثلها. ضحكت وغسلتها بالصابون. الصباح الثاني، كان في الرابعة عشر من عمره، عندما حاول أن يزيل الشامة بسكين، أنقذته في اللحظة الأخيرة، أخبرته فزعا: أنه يقتل واحدة من أسرار جاذبيته، وسيفقد نصف فرصه مع النساء.

حياتي لم تخلق للأبوة. كل دقيقة كانت من أجل الكتابة وتسويق حضوري. تعلقه بي كان يزداد. لا وقت لدي يا حبة عيني. الوقت عدو همجي، لا يعرف الرحمة، يحاصر الكاتب الذي يرغب حقا أن يصير كذلك.

كنت ملء السمع والبصر، أثناء إشرافي على إحدى سلاسل الهيئة، قبل أن أقرر إثر حادث شاحنة أليم أن أتنازل عن لهاث الشهوات الفارغة، متفرغا للكتابة. انقطعت زيارات الحاشية، التي كانت تعاملني كقبلة لها، أو عتبة للتسلق. بين كل ألف كاتب، هناك كاتب ملك، جمهوره من الكتاب الشغيلة، لم يكن عليهم مغادرة خانة التلقي إلى الكتابة. وكنت الملك.

كان علاء دائم الانبهار بي طفلا ومراهقا وشابا، قلدني في كل شىء، كي يصير جزء من إلهه، عندما كنت أروي له حكاية قبل نومه، كان يصر أن أكون أنا بطلها لا هو.

كان ما أفعله غامضا بالنسبة إليه، أغلق على نفسي المكتب بالساعات ما أن أعود إلى المنزل. لكنه علم من غضبي عند اختراق تلك المساحة أن ما أفعله مهم. تعمدت تجاهله بقسوة حتى يضبط إيقاع تلك المحبة التي تكسر القلب.

وجه انتقامه في البداية إلى أمه. قبل أن يدرك مصدره الحقيقي. أشعل النار في مسودة ديوان انتهيت منه لتوي.

تلك هي المرة الوحيدة التي استعدت فيها روح أبي الجاهل في العقاب، عندما ربطني في نخلة وجلدني عاريا، لذنب لا أذكره.

ربطت علاء في السرير، جلدته، بحزام غليظ، ضربة واحدة، دقيقة، لكنها مزقت روحي. انهرت باكيا، تلك ليست يدي، بل يد الجهل، يد القرية بجنها وعفاريتها وخرافاتها، التي لم تشفع معها بذلة الأستاذ، ولا الأسفار ولا الثقافة الهائلة، ولا معاشرة النساء الجميلات من أقطار الدنيا كلها. ألهذا ملت نحو الشعر الغامض وهربت من نثرها، كي أفلت من قبضتها؟

حررته واحتضنته. وبكينا معا. هذا القلب الطيب سامحني في ثوان. نمنا الليلة في سريره. أي شيء أخسره الآن؟ ذلك ولد جميل، يشبهني فعلا. سبع سنوات ولم أجد الوقت لتأمل هذا الوجه. براءته ساحرة. عندما وُلد انقبض قلبي. رأيت فيه أولى علامات موتي. رغم أني أنجزت بعد أربعين عاما من ميلاده مالم أنجزه قبلها.

في اليوم الثاني حملت معي صندوقا مليئا بكتب الأطفال والألغاز. قرأها ليرضيني، وتعلم أن يحترم أوقات عزلتي. كافئته بالحلوى، ولم يدرك أنها رشوتي. سمحت له بالبقاء بجواري، أثناء زيارات المريدين والمنافقين، ومرافقتي في الندوات والمؤتمرات ومقاهي القاهرة. يستمع معي إلى ألغاز النقاد وأشرح له الكثير من اللاشىء الذي نواجهه في هذا الوسط. لماذا نذهب إذن؟ لأن لا قراء لنا يا حبييي سواهم، هم رفقتي التي علي أن أتحملها، حتى نصل إلى ذروة ما تنجينا من قاع العفونة. صار حامل أسراري الأمين.

في الليلة التي سمعت فيها سريره يهتز. أخذته من يده إلى بيت فاطنة. شعرت بغيرة عندما أخبرتني بناتها بعد أن انتهين منه، أن الولد سيتفوق على أبيه. بلعت انزعاجي، وتحررت من غيرتي بدفس قضيبي بين أفخاذهن.

6

في التاسعة من عمره كتب علاء قصصا ساذجة، وأشعارا طفولية. فاجئني حينها، حلم غامض. كنا نسير معا في نفق حبوا، نفق معتم بلا ضوء في نهايته، حتى بلغنا غابة شديدة الجمال، بها نخلة عالية. جذبني علاء إليها، قاومت وحاولت التملص منه، ضرب علاء النخلة بفأسه فانشقت عن بئر، مددت رقبتي لأرى ما فيه، لكن علاء باغتني بأسنان وحشية تطبق على عنقي، تمتص دمي وروحي. ذبلت. فنفخ في من جديد. فصرت بذرة، رماها في البئر، نَمت وجلس علاء  يتأمل ثمارها بصبر.

تكرر الحلم على مدار سنوات، بأشكال متغيرة دون أن يغير فحواه المسمومة.

عندما قدم لي في العشرين من عمره  قصة عادية في ستمائة كلمة. عرفت أي خديعة خُدعت. خلف هذا الهراء الذي أقرأه الآن. موهبة صافية، مخيفة. موهبة إعادة تقديمي. تسرق أفكاري الشفاهية والمكتوبة وتقدمها بشكل أفضل. تنتبه إلى ما لم أنتبه إليه. ممتعة أيضا، تخلو من طلسمة اللغة الشعرية التي لم أتخلص منها.

كان يتحسن قصة تلو أخرى. نشر مرتين بمفرده في مجلات أدبية متخصصة، أُغلقت علي من أعدائي عقابا على رؤيتي لهم كأقزام.

قاومت مشاعري السيئة تجاه سارق أفكاري، الذي يحيا معي تحت سقف واحد بلغة أكثر حيوية وقضيب عفي. واصل الكتابة، محتفظا ببراءة من يشاطرني اللعب لارضائي. لم تعد طفلا. أنت سارق.

لم أهتز، فالآلهة لا تفعل.

استعملت معرفتي الكثيفة في تحطيمه، ببطء، دون وعي في البداية. مزقت نصوصه أمام عينيه، مستغلا عدم نضج كتابته بعد. وكلما توقف يائسا، كلما شجعته على الكتابة أكثر، لأحطمه بقسوة أشد.

في الثلاثين تزوج، توقف عن الكتابة، وعن صداقتي أيضا. صار شخصا آخر، رب أسرة عادي، يمارس نزاوته بحرص، وعلى فترات، تدينه الظاهري ليس إلا وسيلته ليخبرني أنه وجد إلها سواي.

لكنه كان قد منحني الشيء الصغير الذي لم أنتبه إليه، وضيعت عمري هربا منه: الطريقة الوحيد للتخلص من يد “ميت مزاح” القاسية والجهولة، هي بالكتابة عنها، بالغوص في خرافاتها العتيقة للنهاية.

 

7

ارتديت ملابسي ببطء تعمدته. طلبت منه أن يعطيني حقنة فيتامين لا أحتاجها. ادعيت أني تبولت على نفسي، وخلعت ملابسي مرة أخرى للاغتسال. مكثت في الحمام طويلا، راقبته من فتحة صغيرة مكسورة. سيدعي ضبط النفس، ثم تظهر عليه علامات التوتر. يدخل إلى غرفتي. أعلم ما سيفعله: سيقطع ورقة من نسخة لإحدى رواياتي، ويحرقها. يفعل هذا كل مرة، أتخيله وهو ينفخ رمادها بتلذذ. يخرج ليجري اتصالات لتعديل خططه، بصوت يكظم الغيظ.

في كل زيارة يطور من تحرشه بالخادمة المستعدة. ما يعيقه هو عدم توقعه مدة بقائي في الحمام. عودته بصبر ودأب أني لن أخرج قبل ساعة.

في الزيارة السابقة، أدركت أن الثمرة قاربت على النضج، عندما فعلها مع الخادمة متعجلا، خوفا من أداهمه. لقد أخذ مني الوسامة والطول، لكن وجهه أكثر براءة، يجذب النساء بضعفه، بينما كنت أجذبهم بملامحي التي تتسم بالجرأة والجنون والقسوة. ورث مني حب الخادمات، رغم توافر نساء العالم تحت أقدامنا. لهن طعم خاص، نتن، غارق في التراب، صابون المواعين، عرق الاستعباد. تلك اللذة التي لا يعرفها سوى المتمرسين في النساء. أن تخبر شهوتك أنها قادرة على ابتلاع أي شيء. لن تخدعني يا علاء، بتلك الزبيبة الكبيرة التي تنقش جبهتك.

الآن هو جاهز للقطة الذئب. مطمئن تماما.

تسحبت كروح خبيثة –أشعر بهذا وألتذ به- إلى غرفة عزلتي، حيث أكتب، وأدخن وأنيك اللاشيء. قضيب ابني في مؤخرة الخادمة، لهاث طيب. كانت الخطة ناجحة حتى أنه لم يول وجهه شطر الباب كي يسهل عليه رؤيتي. بهدوء قلت: هيا سنتأخر.

فزع بشدة، كأنه رأى عفريتا. الخادمة ابتسمت. اتفقت معها على كل شيء وسأوافيها بالمعلوم لاحقا. أخذت ملابسي وتوجهت إلى غرفة أخرى بلا أي انفعال على وجهي كأني لم أر شيئا. ما أن أغلقت الغرفة حتى انفجرت ضاحكا. ضحك حقيقي، مؤلم ومن القلب. ها أنا أرتب شهورا بخبث وصبر لأمسك لدقائق بشيء من الحياة في صدري، بتصميم مشهد، كروائي، كإله منسي.

عندما خرجت لم أجده، ظننت أنه هرب خجلا. سمعت موتور السيارة، لحقت به. كان ينتظرني وقد استعاد هدؤوه، أدرك المقلب. ضحكنا سويا من القلب قبل أن أفسد الأمر عندما سألته: ما أخبار الكتابة؟

تغير وجهه، أجابني باحتقار: لقد توقفت عن تلك الترهات منذ زمن لست أديبا حقيقيا مثلك. أعلم مايخفيه كلامه: ماذا جلبت لك الكتابة والايمان بها؟ لا شيء. لعنة وجنون ومرارة وهجران.

انطلقت السيارة، ودون كلمة إضافية، غادرنا “ميت مزاح”، قرية أشباحي ومجدي.

*****

خاص بأوكسجين


روائي وصحافي من مصر. من اصداراته: "مملكة من عصير التفاح"" (مجموعة قصصية 2011 )، و""ماندورلا"" (رواية 2013)، و""سيرة سيد الباشا"" (رواية 2016)، و""عائلة جادو"" (رواية 2017)."