الحياة في ظل فيديل كاسترو
العدد 205 | 17 كانون الثاني 2017
بابلو ميدينا


“ستحترق صورته في ذاكرتي مع مرور الوقت تماماً كما يحترق السيجار”

16- كانون الأول- 2016

رسا اليخت الأمريكي الفاخر “غرانما” على الشاطئ الجنوبي لكوبا الشرقية في الثاني من كانون الأول عام 1956 لينزل فيديل كاسترو وثواره الاثنان والثمانون من على متنه. منذ ذلك التاريخ لم يفارق كاسترو ذاكرتي يوماً واحداً. شكل هذا الحدث الهام بداية صحوتي السياسية. لا شك أن سن التاسعة بالنسبة إلى المعايير الأمريكية هو سن مبكرة  لبداية تشكيل وعي سياسي خاص، لكن الأحداث المصيرية التي كانت تتكشف من حولنا فرضت نفسها حتى علي أنا الذي لم أكن قد تجاوزت التاسعة بعد. 

لم تترك انفجارات القنابل بقعة هادئة في مدينة هافانا. رشقات نارية ارتجالية عكرت ظهيرة ذلك اليوم، حتى زوايا الشوارع المزدحمة أصبحت مسرحاً لأجساد يشي تشوهها بمدى التعذيب الذي تعرضت له. بالرغم من أن فيديل في ذاك الوقت كان مجرد اسم آخر انضم إلى قائمة المشتركين في الصراع الكوبي ضد الديكتاتورية، إلا أنه أسر مخيلتي ببطولاته ليصبح ذلك البطل المغوار الذي تجاوز أعتى الصعاب وذهب إلى معقل الشر في جبال سييرا مايسترا ليحارب الطاغية باتيستا وجنوده الأشرار. 

شهدت تلك المرحلة أيضاً بداية صحوتي الأدبية، فقد قرأت الكثير عن فرسان الطاولة المستديرة، وأغرقت نفسي في قصص آرثر كونان دويل وروايات جول فيرن. طالعت كتب القراصنة لمؤلفها إيميليو سالجاري، وكنت أقرض الشعر أيضاً، وفي بعض الأحيان كنت أطلب من أفراد أسرتي إلقاءه أمامي.

كنت مسحوراً بعالم الكتب والمطالعة لدرجة كادت تنسيني فيديل، لكن ما حصل في الثالث عشر من آذار عام 1957، أي بعد أشهر قليلة من وصول فيديل إلى كوبا، أعاده إلى مسرح الأحداث بقوة. في ذلك اليوم هاجمت مجموعة متحضرة من الثوار، معظمهم من الجامعيين والنقابيين، القصر الرئاسي في هافانا في محاولة لاغتيال باتيستا، لكن محاولتهم تلك باءت بالفشل لتكرس صورة كاسترو في الوعي الشعبي على أنه الرجل الوحيد القادر على قيادة الصراع ضد الطاغية، رغم أن كاسترو في ذاك الوقت كان لا يزال مقيماً في الجبال الواقعة على الجهة المقابلة من الجزيرة، آمناً وبعيداً عن المشاركة بمحاولة الاغتيال هذه.

ما كان لأبطال هذه الروايات أن يصمدوا لحظة واحدة في مواجهة بطل كوبي مهيب ينبض بالحياة، أتى بقامته الطويلة ولحيته الملفتة ليقوِّم اعوجاج مسيرة وطن متعب، ويقضي على الفساد المستشري فيه، هذا الدون كيشوت الذي أخذ على نفسه عهداً أن يحارب حتى يعيد للبلاد حكمها الديمقراطي العادل ونهجها الإنساني.

عندما فشلت وسائل الإعلام في نقل مآثره لم يتبق لنا أنا وأبناء عمومتي سوى اللجوء إلى محطة ” راديو الثوار” الإذاعية التابعة لحركة السادس والعشرين من تموز، والتي كنا نستمع إليها خفية ونردد معها بكل حماس النشيد الوطني للثورة ” إلى الأمام أيها الكوبيون”. كان اسم فيديل وكلماته بمثابة شعاع من الأمل يتسرب عبر آذاننا مبشراً بغد أفضل. سيطر التوتر على تلك المرحلة التي قضيناها ذاهلين لكثرة التأرجح بين إحساسنا القوي بالخطر الوشيك وترقبنا المتلهف لنصر وشيك.

غادر الطاغية المفسد باتيستا الجزيرة في الأول من كانون الثاني عام 1959، وأعلن كاسترو نفسه منتصراً في ثورته على الظلم والاضطهاد. احتفلنا بهذا الانتصار المنشود في العاصمة، وأقمنا هناك في انتظار قدوم كاسترو ورتله العسكري من الشرق. سبعة أيام مرت ليدخلوا هافانا بعدها على ظهور دباباتهم وشاحناتهم، لكن هذا الأسبوع لم يكن كافياً ليمحو إعياء القتال عن محياهم. مروا أمامنا بلحىً طويلة أطلقوها هناك في الجبال لتكون اليوم شاهداً على معاناتهم. كانت أسلحتهم لا تزال تعانق أكتافهم وسبّحاتهم تطوق رقابهم لتحميها صلوات الأحبة من الخطر. فيديل وثورته كانا المحور الوحيد الذي دارت حوله أيامنا في تلك الفترة من الزمن. كنا نتابع فيديل عن كثب من خلال المقابلات التلفزيونية الكثيرة التي كان يجريها، واجتماعاته المتكررة مع مجلس وزرائه، حيث كان يجلس أمامهم ويلقي فيهم واحداً من خطاباته المسهبة  التي ما كانت تصيبني بالخيبة أبداً، على الأقل حتى ذلك الوقت. كان لخطاباته تلك وقعاً تطهيرياً وأثراً مخدراً في نفوسنا.

بالإضافة إلى خطابات فيديل وظهوره المتكرر على التلفاز (الأمر الذي كان كفيلاً بتحويله إلى شخص كلي الوجود)، كان يتم أيضاً بث محاكمات الإعدام المقتضبة، تليها عمليات الإعدام التي كانت تنفذها فرقة الرماية بحق من يفترض أنهم من أنصار، أو مخبري، أو أتباع باتيستا. لا زلت أذكر في إحدى عمليات الإعدام كيف تهشمت رأس رجل بفعل الرصاص. 

في أحد الأيام، وبينما كنا مجتمعين أمام التلفاز نشاهد الأخبار المسائية، ورد تقرير عن حملة تفتيش جائرة تعرضت لها مكاتب” El Diario de la Marina” وهي صحيفة القوى البحرية التي كانت تصدر بشكل يومي في هافانا. كان سبب الحملة هو انتقاد الجريدة لطموح فيديل المتعاظم. في إحدى اللحظات، التي تبين فيما بعد أنها ستشكل نقطة تحول في مسيرتي الفكرية، رأيت آلة كاتبة تُرمى بعنف من إحدى نوافذ الطابق الثاني للبناء. تابعت تصور الموقف في خيالي لأرى الآلة تصطدم بالرصيف فتتطاير مفاتيحها في كل الاتجاهات وتتدحرج مسلكتها نحو إحدى مجاري التصريف. مع تحطم الآلة الكاتبة تلك تحطمت كل آمالي وأحلامي المتعلقة بالثورة. في تلك اللحظة تحولت من أكبر المعجبين بفيديل إلى عدو شرس له. لم أفكر به بتلك الطريقة لتأثري بآراء من حولي فحسب، حيث أن والديَّ كانا قد فقدا تعاطفهما مع تلك الثورة منذ مدة، بل لأن تلك الآلة الكاتبة التي رميت على إحدى الأرصفة كانت بمثابة مؤشر ينبئ بالطريقة التي ستتعامل بها الثورة وقائدها مع الكتَّاب والكتابة. ” كل الكتابات التي تصب في صالح الثورة مرحب بها، كل ما يخرج عن هذا السياق لن يمنح أي حق” هذا ما ورد على لسان فيديل في “كلمات موجهة للمثقفين”. 

غادرنا الجزيرة بعد ذلك بوقت قصير، وبالرغم من كل وسائل الإلهاء المتنوعة التي وجدتها في مدينة نيويورك النابضة بالحياة لم أنجح في توجيه تفكيري بعيداً عن فيديل. كنت أفكر فيه أينما ذهبت، كان يلازمني وأنا أزور المتاحف، ودور السينما، وحتى سنترال بارك. حتى في حصص الرياضيات المملة كنت أجد نفسي ألهو برسم رجال ملتحين بعيون حولاء يدخنون السيجار. احتل فيديل تفكيري لدرجة أن بائع الهوت دوغ في آخر الشارع، والذي اعتاد استخدام مياه ملوثة في الطهو، كان يذكرني به، حتى جزار الحي والحاخام الذي يسكن في طابقنا، كانا يذكراني به.

تتالت أحداث هامة على الجزيرة بعد ذلك، حيث تعرض خليج الخنازير للغزو، وتبعته في العام التالي أزمة صواريخ أكتوبر التي ترتب عليها خطاب مدوٍّ في الأمم المتحدة. في عام 1965 بدأ ما كان يسمى بـ” الرحلات الجوية نحو الحرية”، ثم قُتل تشي في بوليفيا عام 1967 ورثاه فيديل على الملأ. عاد فيديل في عام 1968 ليتصدر وسائل الإعلام، حيث تناولت الأنباء خبر دعمه لقيام الاتحاد السوفييتي بغزو تشيكوسلوفاكيا، وتلاها بعد ذلك بعدة سنوات قضية الشاعر باديلا المشينة التي شغلت الرأي العام. كان فيديل حاضراً في كل مكان، في قطعة التوست المحروقة، ووجه قطة أمي، وأغلفة ألبومات البيتلز التي تعود لأختي. كان حقاً كلي الوجود. 

جربت العديد من الوسائل لأتخلص من شبحه المهيمن على تفكيري. تابعت غولدووتر وأصبحت من مناصريه الغيورين، لكن سرعان ما انتهى إعجابي به لما رأيته من تطرف مروع في وطنيته. جربت بعدها الانضمام إلى فريق بيسبول في حي مجاور، لكن وجه فيديل مثل أمامي على الكرة التي سددها لي ولد أشقر ضخم البنية متبعاً طريقة الرمية الملتوية. ترنحت بالطبع وفاتتني التسديدة، ثم تذكرت تلك القصة الخرافية التي تحدثت عن محاولة فيديل بأن يصبح مسدد الرميات في مجلس الشيوخ الأمريكي. لجأت إلى أساليب أخرى مثل التأمل، واليوغا، والحميات المختلفة، لكني في نهاية المطاف لجأت إلى مرشد روحي شخَّص لي حالتي بأنها مرضٌ مستعصٍ. كنت أعلم هذا. كيف لا وهو حاضر معي في أي فعل أقوم به؟ أراه عندما أتناول المثلجات، وحين أشعل سيجارة، وحتى بعد أن أقلعت عن التدخين أصبحت أراه معي وأنا أهرول حول المبنى الذي أقطنه.

مرت السنون ليستقر فيديل أخيراً كفأر هادئ في حجرة قصية في ذاكرتي. كم كان ذلك مبعث راحة بالنسبة إلي! في أحد الأيام، وفيما كنت أعبر البلاد بسيارتي مع ابني لأتسلم عملاً في لاس فيغاس، وقع فيديل فريسة المرض. تلقيت مكالمات على جوالي الشخصي، وأجريت معي عدة مقابلات إذاعية بهذا الخصوص. كنا في آركنساس، برينكلي، موطن نقار الخشب عاجي المنقار، الذي كان قد عاود الظهور بشكل خبيث بعد سنين من الاعتقاد بأنه قد انقرض. عبرت البلاد جيئة وذهابا عدة مرات في الأعوام التي تلت ذلك لينتهي بي المطاف في بوسطن، أبعد مكان عن أي شيء يتعلق بثقافة كوبا وفيديل، أو هذا ما كنت أظنه على الأقل. اشتد المرض على فيديل بعد ذلك فعرضته كل وسائل الإعلام العالمية. ها هو فيديل قد تحول إلى رجل مسن فقد أسنانه، يعيش آخر أيامه مرتدياً بدلة رياضية يستقبل فيها الرؤساء والباباوات وشخصيات اعتبارية أخرى في منزله، فيما استلم أخوه راوول قيادة البلاد.

أعاد باراك أوباما إحياء العلاقات الدبلوماسية مع كوبا العام الفائت. لم يكن لفيديل أي ظهور على الإطلاق في كل الاحتفالات التي جرت في هافانا بهذه المناسبة، لكن حضوره لم يكن خافياً أبداً. لم يمر وقت طويل حتى صرح فيديل باعتراضه على الاتفاقية التي أبرمها أخوه مع الامبريالية القابعة شمالي البلاد من خلال رسالة شديدة اللهجة تم بثها تقريباً على كل وسائل الإعلام الهامة. حكم فيديل بلاده فترة أطول من حكم معظم الملوك ليتحول إلى بصمة فارقة تركت أثراً عظيماً في روح وقلب كل كوبي، سواء كان يحبه أم يكرهه.

في السادس والعشرين من تشرين الثاني 2016 تلقيت مكالمة هاتفية من أحد أصدقائي في الخامسة صباحاً، يخبرني فيها أن فيديل كان قد توفى في الليلة الماضية. جلست في سريري وتنهدت بعمق، ثم ذهبت إلى الحمام لأتبول قبل أن أجلس أمام التلفاز طوال ذاك النهار والليلة التي تلته، أستمع للأخبار التي تتحدث عن فيديل الذي أصبح حقاً وبشكل قطعي وحاسم وأبدي تحت التراب. كان من المفترض أن أشعر بالابتهاج لكني وجدت نفسي أشعر بالأسف على الرجل المسن المصاب بجنون العظمة كما أشعر بالأسف على وفاة أي شخص آخر. إنه الموت، المارد الذي لطالما شعرنا بضآلتنا تجاهه.

الآن، وفيما أكتب هذا المقال، علمت أنه تم حرق جثة فيديل ودفنها في مقبرة تحمل اسم قديسة كاثوليكية عذراء. مع مرور الوقت ستحترق صورته في ذاكرتي تماماً كما يحترق السيجار، ليتحول رويداً رويداً إلى حفنة من رماد لا قيمة له، مخلفاً وراءه خيوطاً واهية من دخان فواح، وعبرة تحذيرية للقساة من الرجال الساعين وراء النفوذ والسلطة.

*****

خاص بأوكسجين