الحقيقة هي النور والنور هو الحقيقة
العدد 149 | 07 نيسان 2014
رالف إليسون/ ترجمة: أسامة منزلجي


   أنا إنسانٌ غير مرئيّ. كلا، لستُ شبحاً من تلك الأشباح التي تسكن إدغار ألن بو ؛ ولستُ أحد تشكيلاتك السينمائية الهوليوديّة. أنا إنسان ملموس، من لحم وعِظام، وأنسجة وسوائل – ويمكن القول أيضاً إنني أمتلك عقلاً. أنا غير مرئيّ، أتفهم، لمجرد أنَّ الناس يرفضون أنْ يروني. وكالرؤوس التي بلا أجساد التي تراها أحياناً في العروض الثانوية في السيرك، كأنني مُحاط بمرايا من زجاج قاسٍ، مُشوِّه. عندما يقتربون مني لا يرون إلا ما يُحيط بي، أي أنفسهم، أو قِطعاً من مخيلتهم – في الحقيقة، إنهم يرون كل شيء وأيّ شيء إلا أنا.

   وكوني غير مرئيّ لا يعود بالضبط إلى حادث كيميائي حيوي وقع لبشرتي. إنَّ هذا النوع من الاختفاء الذي أُشير إليه يحدث بسبب حَوَل من نوع معيَّن يحدث لعيون الذين أتصل بهم. إنه مسألة تتعلّق بتكوين عيونهم الداخليّة، تلك العيون التي ينظرون بها من خلال عيونهم الماديّة إلى الواقع. أنا لا أتذمَّر، ولا أحتجّ. فمن التميُّز ألا تكون مرئياً، على الرغم من أنه يُرهِق الأعصاب. وأيضاً، دائماً يرتطم بك أصحاب النظر الضعيف. أو أيضاً، دائماً ينتابك الشك في أنك موجود حقاً. تتساءل ما إذا كنتَ مجرد شبح في أذهان الآخرين. فلنقُل، شكلاً في كابوس يُحاول النائم بكل قِواه أنْ يُدمره. عندما تشعر هكذا، بدافع الاستياء، تبدأ ترتطم بدورك بالناس. ودعني أعترف لك، إنك تشعر هكذا في أغلب الوقت. تتوجّع من شدّة الحاجة إلى إقناع نفسك بأنك موجود حقاً في العالم الواقعي، بأنك جزءٌ من كل الأصوات والآلام، وتضرب قبضيّ يديك معاً، وتلعن وتسبّ لكي تجعلهم يروك. ولكن للأسف، نادراً ما تنجح المحاولة.

   ذات ليلة أرتطم مُصادفة بأحد الرجال، وربما بسبب اقتراب حلول الظلام رآني ورماني بنعتٍ مُهين. فوثبتُ عليه، وأمسكت به من معطفه ومن طيتي السترة وطالبته بالاعتذار. كان رجلاً طويل القامة وأشقر، وعندما قرّبتُ وجهي من وجهه نظر إليّ بغطرسة من عينيه الزرقاوين ولعنني، ولسعت أنفاسه الحارة وجهي وهو يُصارع. فجذبتُ ذقنه نحو الأسفل بحركة حادة فوق قمة رأسي ورحتُ أنطحه، كما رأيتُ الهنود الغربيين يفعلون، وشعرتُ بلحمه يتمزق والدم يتدفق، وصرخت ” اعتذر ! اعتذر ! “، لكنه استمر يلعن ويُصارع، وأخذت أكرر النطح إلى أنْ سقط بقوة على رُكبتيه وهو ينزف بغزارة. ورفسته باستمرار في ثورة مسعورة لأنه ما انفك يرميني بالسباب على الرغم من أنَّ شفتيه كانتا تزبدان بالدم. آه نعم، كم ركلته ! وفي خضم نوبة شجاعتي أخرجت سكيني وتأهبت لحزّ عنقه، هناك تحت عمود النور وسط الشارع المُقفِر، ممسِكاً به من ياقته بيد، وفاتحاً السكين بأسناني – وإذا بي أتبيَّن أنَّ الرجل لم يرني، في الحقيقة ؛ أنه، حسب عِلمه، وسط كابوس يسير على قدمين ! أوقفتُ السكين، ومزّقتُ الهواء وأنا أبعده عني، وتركته يسقط على أرض الشارع. أمعنتُ النظر إليه عندما طعنتْ أضواء سيارة مارة جسد الظلام. إنه يستلقى هناك يتأوه على الإسفلت ؛ رجل كاد يٌقتَل بيد شبح. وتميَّزتُ غيظاً. شعرتُ معاً بالاشمئزاز وبالخزي. كنتُ أشبه بسكّير، أترنّح على ساقين واهنتين. ثم شعرت بالمرح. لقد قفز شيء من رأس هذا الرجل المغفّل وضربه وكاد يودي بحياته. وبدأتُ أضحك من هذا الاكتشاف المجنون. هل استيقظ عند شفا الموت ؟ هل حرّره الموت من أجل حياة يقِظة ؟ لكنني لم أتوقف طويلاً عند هذا. وفررت ُ داخل الظلام، ضاحكاً بصوت عالٍ إلى درجة أنني خشيتُ من أنْ أُصاب بفتق. وفي اليوم التالي رأيت صورته في صحيفة الديلي نيوز، تحت تعليق يقول إنه ” تعرَّضَ لهجوم “. يا للأحمق المسكين، يا للأحمق الأعمى المسكين، قلت هذا لنفسي بتعاطفٍ صادق، لقد تعرَّضَ لهجوم من شخص غير مرئيّ !

   في الغالب أنا لستُ عنيفاً بشكل صريح (على الرغم من أنني لم أختر كما فعلتُ ذات مرة إنكار العنف الذي اتسمت به حياتي بتجاهله)، وأتذكّر أنني غير مرئيّ فأمشى بخُطى هادئة لكي لا أوقظ النائمين. أحياناً من الأفضل  ألا نوقظهم ؛ هناك أشياء قليلة في العالم تعادل في خطورتها السائرين في أثناء نومهم. لكنني تعلمت في الوقت المناسب أنَّ من الممكن الاستمرار في مكافحتهم دون أنْ يعلموا. على سبيل المثال، إنني أخوض حرباً مع شركة النور والطاقة المُحتكرة منذ مدة. إنني أستفيد من خدمتهم من دون أنْ أدفع لهم أي شيء، وليس لهم عِلم بهذا. أوه، إنهم يعتقدون أنَّ هناك تسرّباً في الطاقة ، لكنهم لا يعلمون أين. كل ما يعرفون هو أنه وِفقاً للمقياس الرئيس عندهم في محطة الطاقة هناك كماً هائلاً من التيار المجاني يختفي في مكان ما من غابة هارلم. النكتة، طبعاً، هي أنني لا أُقيم في حي هارلم وإنما في منطقة حدودية. وقبل بضعة أعوام (قبل أنْ أكتشف ميزة كوني غير مرئيّ) خضتُ روتين عملية تسديد تكلفة الخدمة ودفع مبلغ ضخم. لكنني لن أفعل بعد الآن. لقد تخليتُ عن هذا كله، وعن شقتي، وعاداتي القديمة كلها في الحياة : وذلك اعتماداً على الافتراض المُضلل القائل إنني، كغيري من الرجال، مرئيّ. والآن، وقد بتُّ أعي أنني غير مرئيّ، أعيش دون دفع قيمة إيجار في مبنى يُؤجَّر حصراً للبيض، في قِطاع من القبو أوصد ونسيَ في القرن التاسع عشر، وهو ما اكتشفت وأنا أحاول أنْ أهرب تحت جنح الظلام من راس المُدمِّر  Ras the Destroyer. لكنني أستبقُ كثيراً أحداث القصة ، ربما حتى النهاية، على الرغم من أنَّ النهاية تقع في البداية وتستبق أشياء كثيرة.

   المهم هنا هو أنني عثرتُ على مأوى – أو حفرة في الأرض، اختر ما شئت. ولكن لا تُسرع إلى الاستنتاج أنه لأنني أُسمي مأواي ” حفرة ” فهذا يعني أنه رطب وبارد كالقبر ؛ فهناك الكثير من الحفر الباردة والحفر الدافئة. وحفرتي دافئة. وتذكَّر، أنَّ الدبّ ينسحب إلى حفرته لقضاء فصل الشتاء ويعيش فيها حتى حلول فصل الربيع ؛ ثم يخرج متمهلاً مثل صوص عيد الفصح بعد أنْ يكسر قشرته. إنني أقول هذا كله لكي أطمئنك إلى أنَّ هذا الافتراض غير الدقيق، لأنني غير مرئيّ وأعيش في حفرة، أنا ميّت. إنني لست ميتاً ولا في حالة حيوية كامنة. سمِّني جاك الدب، لأنني في حالة من السُبات.

   إنَّ حفرتي دافئة ويغمرها الضوء. نعم، مغمور بالضوء. إنني أشك في وجود بقعة أسطع ضياءً في نيويورك كلها من حفرتي هذه، ولا أستثني من ذلك برودواي. أو مبنى الإمباير ستيت في صورة ليلة الحالمة. لكنني أستغلك بهذا. فهاتان البقعتان هما من أشدّ ما في حضارتنا كلها ظلاماً – عُذراً، بل ثقافتنا كلها (والفرق هامّ، كما سمعت) – مما قد يبدو أشبه بالخداع، أو التناقُض، ولكن هكذا (أعني، بالتناقُض) يسير العالم : ليس كانطلاقة السهم، بل بخط البومارانغ  الملتوي. (حذارِ من أولئك الذين يتحدثون عن مسار التاريخ اللولبي ؛ إنهم يُعدّون قذيفة البومارانغ. فاستعد بقلنسوة). أعلم هذا ؛ لقد تلقّيت كثيراً من ضرب البومارانغ على رأسي حتى أصبح في استطاعتي أنْ أرى الظلام في النور. وأنا أحب النور. لعلك سترى أنَّ من الغريب أنْ يحتاج رجل لا مرئيّ إلى النور، أنْ يرغب في النور، أنْ يحب النور. ولكن ربما السبب هو بالذات لأنني غير مرئي. إنَ النور يؤكّد حقيقتي، يُعطي شهادة ميلاد لشكلي. وقد أخبرتني فتاة جميلة ذات مرة عن كابوس يراودها باستمرار ويتراءى لها فيه أنها مستلقية وسط غرفة فسيحة مظلمة وتشعر بوجهها يتمدد إلى أنْ يملأ الغرفة بأكملها، وتُصبح كتلة لا شكل لها بينما عينيها ترتفعان كهلام صفراوي على طول المدخنة. وهكذا هو حالي. من دون نور أنا مجرد شخص غير مرئيّ، ولكن أيضاً من دون شكل ؛ وأنْ تنسى أنَّ لك شكلاً معناه أنْ تعيش الموت.  أنا نفسي، بعد عشرين عاماً من الوجود، لم أُصبح حياً إلى أنْ اكتشفت أنني غير مرئيّ.

   لهذا أخوضُ معركتي مع شركة النور والطاقة المُحتكرة. أعني، أنه السبب الأعمق : إنها تسمح لي بأنْ أشعر بحياتي الحيوية. إنني أحاربها أيضاً لأنها أخذتْ الكثير من مالي قبل أنْ أتعلَّم كيف أحمي نفسي. في حفرتي في القبو هناك بالضبط 1،369 لمبة نور. لقد مددتُ أسلاك الكهرباء عبر السقف كله، في كل بوصة منه. ليس بلمبات النيون، بل بالنوع القديم، الأكثر تكلفة، النمط الخيطيّ. بعملية تخريب، كما تعلم. لقد باشرتُ تواً مد الأسلاك على الجدار كله. كان جامع خردة أعرفه، واسع المخيلة، قد زوّدني بالأسلاك وبالمقابس. لا ينبغي أنْ يقف في طريق حاجتنا إلى النور والمزيد من النور الساطع إعصار أو فيضان. إنَّ الحقيقة هي النور والنور هو الحقيقة. وعندما أنتهي من تغطية الجدران الأربعة ، سوف أباشر بالأرضية. ولا أعلم كيف سيتم ذلك. ولكن عندما تعيش حياة طويلة وأنت غير مرئيّ كما حصل معي تنمي براعة معيَّنة. سوف أحلّ المشكلة. وربما أخترع أداة من أجل وضع ركوة القهوة على النار وأنا مستلق على السرير، بل وأخترع أداة من أجل تدفئة سريري – كالشخص الذي رأيت في إحدى المجلات المُصوّرة الذي صنع أداة لكي يُدفئ حذاءه ! وعلى الرغم من أنني غير مرئيّ، إلا أنني أنتمي إلى التراث الأميركي العظيم لصنّاع الأحذية. وذلك يربطني بصِلة القُربى مع فورد، وأديسون وفرانكلين. سمِّني، بما أنني صاحب نظرية وتصوُّر، ” سمكري-مفكِّر “. نعم، سوف أُدفئ حذائي ؛ إنه في حاجة إلى ذلك، فهو في المعتاد مملوء بالثقوب. سوف أفعل هذا وأكثر. 

   الآن لديّ راديو-فونوغراف ؛ وأُخطط لحيازة خمسة. إنَّ حفرتي يسودها حزن سمعيّ معيَّن، وعندما ستنطلق الموسيقى أريد أنْ أشعر بذبذباتها، ليس فقط بأذني بل بكامل جسمي. أودّ أنْ أسمع خمسة تسجيلات للوي آرمسترونغ وهو يعزف ويغني ” ماذا جنيتُ حتى أصبح أسود وحزيناً ؟ ” – كله في وقت واحد. في هذه الأيام أحياناً أستمع إلى لوي وأنا أتناول مرطبات بعد الأكل المفضلة لديّ من مثلجات الفانيليا مع مشروب الجن. أصبّ المشروب الأحمر فوق الركام الأبيض، وأراقبه يتلألأ ويرتفع البخار بينما لوي يثني تلك الآلة الموسيقية العسكرية ويحولها إلى شعاع من الضجيج الغنائي. لعلي أحب لوي آرمسترونغ لأنه يجعل من كونه غير مرئيّ قصيدة شِعرية. أعتقد ذلك لأنه لا يعي أنه غير مرئيّ. ووعيي الخاص بظاهرة الاختفاء يُساعدني على فهم موسيقاه. وذات مرة عندما طلبتُ سيجارة، أعطاني بعض المازحين سيجارة من الحشيش، وعندما رجعتُ إلى المنزل أشعلتها وجلستُ أستمع إلى فونوغرافي. كانت أُمسية من نوع غريب. إنَّ ظاهرة الاختفاء، دعني أشرح هذا، تمنح المرء حساً مختلفاً قليلاً بالزمن، لا يمشي أبداً على الإيقاع. أحياناً يتقدَّم وتارة يتأخر. وبدل تدفُّق الزمن السريع والدقيق، يعي مطباته، تلك النقاط التي يتوقف عندها الزمن أو يقفز إلى الأمام. ويضغط على الكوابح ويتلفّت حوله. هذا ما يسمع بغموض في موسيقى لوي.

   ذات مرة شاهدت ملاكماً محترفاً يقاتل رجلاً قروياً. كان الملاكم سريعاً ودقيقاً بصورة مذهلة. كان جسمه دفقاً عنيفاً من الحركة المنتظمة والسريعة. ضرب القروي مئة مرة بينما القروي يرفع ذراعيه في حالة من الدهشة والذهول. ولكن إذا بالقروي فجأة يتنقل في المكان بقفازه المُضحك، ويُسدد ضربة واحدة ويُطيح بالدقة، وبالسرعة وبحركة القدمين ببرودة مؤخرة حفّار آبار. وبدأتْ أموال المراهنة تنهال. وفاز الأقلّ حظاً. إنَّ الأمر ببساطة هو أنَّ القروي تلاعب بإحساس خصمه بالزمن. وهكذا وتحت تأثير سيجارة الحشيش اكتشفتُ طريقة تحليلية جديدة للإصغاء إلى الموسيقى. وظهرت الأصوات غير المسموعة، وبرز كل خط نغمي وحده، خارج كل ما تبقّى، وقال ما لديه، وانتظر بصبر الأصوات الأخرى لتتكلَّم. وفي تلك الليلة وجدتني أسمع ليس فقط في الزمان، ولكن أيضاً في المكان. ليس فقط ولجتُ الموسيقى بل هبطتُ، كما فعل دانتى، إلى أعماقها…. 

_______________________________________

من توطئة رواية ” اللا مرئيّ ” 1952، وهي الرواية المفصلية في تاريخ الأدب الأميركي والعمل الروائي الوحيد للكاتب رالف إليسون (1914 – 1994)، والتي اعتبرت واحدة من أهم 100 رواية كتبت باللغة الانكليزية حسب مجلة “تايم” الأميركية. لم تصدر لإليسون سوى رواية واحدة بعد “اللامرئي” وهي “جونتينس” 1999 ولتصدر عام 2010 بعنوان “ثلاثة أيام قبل التصوير” وهي رواية غير مكتملة كتبها على مدى أربعين عاماً.

الصورة من فيلم بانكسي “الخروج من متجر الهدايا” الذي يمكن القراءة عنه في زاوية “كتاب”.

*****

خاص بأوكسجين