الحصان الذي لا يتوقف عن العمل
العدد 201 | 24 تشرين الأول 2016
نجوى بن شتوان


(1) 

خلال شهر وخمس عشرة ساعة تحديداً من عصر يوم سبت، انتهت بشكل مؤسف سيطرة فكرة طارئة على روح ماريا ماقلوتي، حددت لها نشاطها الذهني والجسدي ورسمت علاقتها بالمحيط والأشخاص والأشياء بل وصاغت ملامح حاضرها ومستقبلها كاملاً، قد يصعب تصديق كيف تم ذلك في حياة عجوز عادية من ملايين العجائز الذين تكتظ بهم خريطة إيطاليا لكنه حدث!

جاءت ماريا في منامتها القطنية عند الساعة الثامنة والنصف مساء وأخبرت ناتاشيا بقرارها الجديد:

– سوف أتعرض للسرقة يانتاشيا.

قالت بخوف ثم أضافت:

للأسف إن الأشياء التي نخشاها لابد أن تحدث حتى وإن تأخرت، عليك إقفال الباب كلما خرجت ودخلت سبع دورات، عليك إغلاق النوافذ جيداً، حتى نافذة الحمام، لا تتركي الجزء الداخلي منها مفتوح، اللصوص تخطر لهم أفكار كثيرة لسرقتنا لا نتوقعها.

 

استغربت نتاشيا ماقالته ماريا ماقلوتي وسألتها: 

– ماذا حدث ليتوجب علينا ذلك؟ 

– لم يحدث شيء، لكننا يجب ألا نجعل شيئاً سيئاً يحدث. أنا لا أريد أن يحدث لي سوء وقع لآخرين، اللصوص خطر يجب التحوط منه.

لم تعقب نتاشيا بما يمكنه حتى تخفيف قلق العجوز، ففي يقينها ألا جدوى من الحذر إذا كان مقرراً لنا ما نحذر منه، أرادت اختصار الحديث بهز رأسها تجاوباً مع ما أملته عليها العجوز، بدا لها عبث الكلام في هذه اللحظات التي تخضع فيها روح ماريا لقوة غامضة، فالخوف الغريب جعل كلماتها ترجف وسيطر على عينيها حتى بدت أصغر من حبتي الحمص وهو حجمهما الطبيعي، لذلك من الأجدر عدم مجادلة عينين حمصيتين خائفتين.

 

 قالت ماريا:

– إن سارقاً من عموم لصوص روما وضواحيها سيأتي للسرقة، إنهم يحددون ضحاياهم بشكل دقيق، وفي الغالب يكون الضحايا كبار السن، ممن يخرجون صباحاً للتسوق أو التمشي أو اصطحاب كلابهم للحدائق، فيأتي اللصوص بهدوء لبيوتهم ويسرقون شقاء عمرهم ببساطة!

 

كان وحياً أو إلهاماً غير مفهوم، لكن ماريا على أية حال كانت في حالة إعلان طوارئ غير مسبوقة وهددت بعدم التسامح مع نتاشيا إن قصرت في إغلاق الباب بعدد الدورات السبع التي يدور فيها المفتاح في القفل فتحاً وإغلاقاً أو إن وجدت نافذة الحمام مفتوحة بحجة التهوية. 

 

كانت نتاشيا تخرج وتدخل أكثر من ماريا ماقلوتي التي لا تغادر الشقة منذ تقاعدت، إلا لجلب الطعام ودفع الضرائب والعلاج، لذا يعد الوقوف بالنسبة لنتاشيا ستة دقائق على الأقل لفتح الباب ثم إعادة إغلاقه، امتهاناً مريعاً، فاللصوص غالباً لا يأتون البيوت من أبوابها إلا إذا اختفوا في هيئة مألوفة جداً. 

 

كانت ماريا تقضي يومها في السرير تتدبر الخطط وتستمع للراديو علّه يضيف شيئاً جديداً لما نقلته لها أدريانا، وإذا ما ذهبت للمطبخ لإعداد وجبتها تقوم بفتح الراديو الموجود أعلى الثلاجة على المحطة ذاتها الخاصة بالحياة في مجتمع لاتسيو، كانت كمن يترقب مجيء ضيف غير مرغوب لابد من مجيئه لتكتمل دورة حياة المسن. 

 

– ما من مسن في إيطاليا إلا وتعرض للسرقة قبل أن يرحل إلى الآخرة، هذا الختم لابد منه!

قالت ماريا.

 

– هل حدث وقام أحدهم بالسطو عليك؟ 

سألت نتاشيا.

– لا، لم يحدث سكنت هذه الشقة منذ زواجي ولم يحدث مرة أن نزل علي سارق.

– إذن مما تخافين الآن وابنتك في عقدها الخامس، المكان كله آمن، كما وتوجد كاميرا مراقبة خلفية للفندق الذي يحاذيكم، والشارع نهايته مغلقة، والحي هادئ وآمن؟

– صحيح، صحيح، لكن اللصوص منتشرون في روما كما قال الراديو ولديهم خطط تتغلب حتى على خطط البوليس، لقد نهبوا أمي وأنا في الستين.

– لماذا غيرتي عاداتك في متابعة برامج الطهي وأصبحت تستمعين إلى هذه البرامج المتوجسة، كنت أفضل يا ماريا من قبل، كنت مبتسمة ومتفائلة ولا يكاد المرء يصدق أنك في الثمانين، الآن تبدين أكبر بكثير، كم أنا آسفة لقول ذلك يا ماريا، لكن اللص أو الراديو غيّرك!

 

هزت ماريا رأسها كما لو أن كلمات نتاشيا لامست لديها جيناً عائلياً يتوجس من كبر السن، ثم شدت طرف جوربها إلى ركبتها قائلة:

– صحيح، صحيح، كنت أفضل مع الطبخ والمعجنات، لكن من الأفضل أن أفعل وإلا سوف يفوتني الكثير، أنا لا أعرف أساليب لصوص اليوم المتطورة  ومن الأفضل لي أن أعرف، لقد قالوا إن اللصوص يصدرون صوتاً معيناً وهم يتسلقون جدران المنازل، علينا أن ننتبه إليه.

– كيف؟ وهل سمعتي هذا الصوت؟ 

قالت:  نعم، نعم، نقلته لي أدريانا. 

 

نهضت من مكانها واقتربت من الجدار، جمعت أطراف أصابعها ومشت بأظافرها المدببة عليه محدثة نقراً معيناً مصحوباً بتوضيح شفهي:

 

– كوشكوش، هكذا! تعلمين أن سمعي ضعيف، وإن لم يخبرني أحد عن هذا الصوت، ربما كنت سأسمعه وأعتبره صوت الريح وحينها ستكون الكارثة قد وقعت فعلاً لماريا ماقلوتي! 

 

مالت نتاشيا برأسها ناحية يد العجوز على الجدار وتأملت أظافرها المطلية باللون الأحمر، لكم تبدو جميلة حقاً ويصعب تخيل أن نتاشيا التي لا تكف عن غسل صحون المطاعم حتى في عطل الآحاد،  هي من تدفع كلفة العناية بيدي العجوز !

تسرب إلى تفكير نتاشيا أن اللص إذا كان مستجداً وسيء حظ، فسوف يأتي لشقة ماريا ماقلوتي، ولن يجد سوى معالم حياة من قرن فائت، خردوات ورثتها عن أمها، صناديق من الصور العائلية والملابس لأناس لم يعد لهم وجود، لكنها فاعلة للقبض على اللص في سوق الأحد، حيث تباع المسروقات، عدا ذلك فما تملكه ماريا من ذهب وفضة، يصعب الوصول إليه دون الوصول إلى روحها، بعدما راكمت ماريا الكميات التي تملكها في معصميها ورقبتها، ولم تسمح بتنحيتها حتى في مصحة التدليك الأسبوعي.

 

أثناء جلوسهما للطعام، لا تتحدث ماريا عن شيء لا علاقة له بقصص اللصوص، سردت العديد من الحكايات التي لم تكن نتاشيا قد ولدت عند حدوثها، كانت تنصت وحسب لجملة من وسائل الحماية القديمة غير المجدية اليوم، لكنها لا تتفوه بما يخيب ظن العجوز، تتركها تتمادى في الأمل،  ولئلا تتوجس من أنها امتهنت اللصوصية من قبل  أو عملت مع عصابة وخبرت جدوى ما تخبرها إياه اليوم، ربما ليست هي من سيتوجس بشكل فعلي، بل أدريانا من ستجعلها تفعل بشكل غير مباشر حتى يتهيأ لها أن المافيا الاوكرانية زرعت نتاشيا في بيتها عمداً، لذلك تسكت نتاشيا على ما في قلبها وتبتسم بود كما لو أن سرد العجوز يلاقي استحسانها، وفي كثير من الأحيان تنشغل بطبق الطعام أمامها وكأنها تحب المذاق المتكرر للبولينتا أو الباستا بالثوم. 

 

– من أول شخص لفت انتباهك للبرنامج الذي تحدث عن السرقة؟

 

ابتهجت ماريا للسؤال وسارعت بالإجابة:

 

– صديقتي أدريانا، اتصلت بي وطلبت مني أن أفتح المحطة فوراً، كانوا يخصصون حلقة للسطو على المنازل، شعرنا أنا و هي بأننا معنيتين بحديثهم، كل المداخلات والأسئلة كانت تدور حولنا حتى وإن لم يذكروا اسمينا ولكنهم تكلموا كمن يعرف عنا كل شيء، حتى عن قيمة مدخراتنا بما أننا عايشنا عصر الانفجار الاقتصادي في إيطاليا.

يا حسرة على أيام الليرة.

أضافت متنهدة. 

– ولكن تلك حلقة إذاعية ومضت، لا يمكن أن تعيشا أسيرتين لما قالوه؟ 

اعترضت ماريا مقطبة: 

ما قيمة ما قيل إذا أهملنا ما سمعناه؟!

 نتيجة لذلك غابت الموسيقى عن الشقة ولم أعد أجد في الراديو عند عودتي إلا أصوات بشرية تهرف عن أي شيء.

حاولت نتاشيا قول ذلك لماريا ثم عدلت عنه وانهمكت في تناول البولينتا.  

 

(2)

 

اشترت نتاشيا من أحد مواقع البيع الإلكتروني، جهاز صغير يدعى  Mini A 8، وربطته بجوالها لمسح المكان في غيابها، كأن عدوى ماريا ماقالوتي أصابتها، وضعته في مكان غير مكشوف، بأعلى المدخل المقابل لباب حجرتها، كي تضمن سماع صوت من يدخل الشقة ومن يفتح حجرتها في الوقت نفسه، كانت تلك استراتيجيتها الخاصة، ومنذ تبعتها واصلت الاتصال بالقطعة بين الحين والآخر  كنظام آمن للمراقبة.

في إحدى مرات اتصالها سمعت نتاشيا صوت ماريا ماقلوتي تفتح باب حجرتها وتفتش في أغراضها، لا تفعل العجوز ذلك من باب الريبة إنما من باب الفضول والتطفل على حياة نتاشيا الغامضة، وفي طريقها لإغلاق باب الحجرة نست وحملت الصينية التي تركتها نتاشيا على الطاولة!

 

اعتبرت نتاشيا الفضول لصاً حتى وإن لم يسرق شيئاً عينياً، تلك الليلة تحدثت مع ماريا وكأنها راديو عن نوع آخر من السرقة لم تسمع عنه ماريا من قبل، نوع لا يسرقنا ولكنه يسرق منا ما لا نستطيع استرجاعه، استغربت ماريا لغة نتاشيا تلك الليلة وركزت في عينيها لسبر غور كلماتها ثم نظرت لطبق الباستا وأرجعت الأمر إلى مجرد خلل في عملية الأيض، فالفتاة لا تأمل طعاماً صحياً البتة، لكنها استحسنت لتطور حالة نتاشيا واندماجها في أجواء اللصوصية بعدما مضت أيام وهي خارجها، إنها الآن أفضل، تتعاطى بشكل إيجابي مع خطط الحماية وتتكلم وتسرد أفكارها وتعطي مقترحاتها وتشكل فلسفتها الخاصة بها. 

قالت ماريا لصديقتها أدريانا إن البنت صارت معنا على نفس الموجة وهذا جيد!

 

في شهر آب ذهبت ماريا صحبة إحدى الصديقات، لبيتها البحري خارج روما، وقد بلغت توصياتها لنتاشيا بالحرص على الشقة وإيصاد الأبواب، حد التحريض على البقاء يومي السبت والأحد في الشقة وعدم مغادرتها!

هزت نتاشيا رأسها عند كل كلمة اختصاراً للتكرار، لكن ماريا كررت وصاياها مع ذلك غير آبهة بحاجة نتاشيا للهواء!

 

إحدى المرات اتصلت نتاشيا بالجهاز وفوجئت بسماع صوت ابن ماريا ماقلوتي في الشقة، ماذا جاء يفعل؟ ولماذا لم يستأذن للمجيء؟ ولماذا أخفى أن لديه مفتاحاً، ظلت نتاشيا تنصت لوقع قدميه وطرقعة بعض الأشياء، تمكنت من تحديد الأصوات التي تسمعها ومكانها، آه إنه في غرفة التخزين هو وعشيقته إيلسندرا، عن ماذا يبحثان؟ رفعت دقة الصوت وسجلته. ثم سارعت إلى الانترنت ووضعت بضعة كلمات في محرك البحث. استرجعت عنوان العشيقة وكي تتأكد أرسلت لها إيميلاً وهمياً للشراء وعندما أتاها الرد بعد يوم، نسخت ال ip من البريد القادم وحددت موقعه على الجوجل إرث !

 

لقد عثرت على الإجابة، إنهم يسرقون العجوز ويبيعون صحونها وملاعقها القديمة في الفضاء الإلكتروني وعنوان البريد الالكتروني هو نفسه مكان سكن العشيقة!

 

لكم صدق إحساسك يا ماريا بمجيء السارق، وإن لم يصدق بتوقع أنه سيستقل القطار من ضواحي روما ويسرق محافظ بعض الركاب قبل نزوله بمحطة التيرمني و توجهه إلى البيوت التي حددها للسطو ومن بينها شقتك، لم يأت بتلك الكيفية، لأنه موجود من ترائبك ويعيش في الأوراق الرسمية معك، ولديه مفتاح أيضاً!

 

في اليوم الذي عادت فيه ماريا من اصطيافها دخلت نتاشيا الشقة المقفلة كقبر، وجدت العجوز تفتش بعض الملفات متجهمة، حيّتها وسألتها فوراً عمّ بها؟

 

أجابت العجوز بحزن: لقد سرق نقالي في تشرشيو!

 

فتحت نتاشيا فمها من براعة اللص الذي استطاع نهب ماريا وهي صاحية: لكن كيف حدث ذلك يا ماريا، من استطاع خداعك والسطو عليك؟ 

 

– نظفت الحديقة من أوراق الشجر المتساقطة ورميت كثيراً من الأوراق التي لم تعد لها قيمة في الأدراج، جمعتها في صندوق في اليوم المخصص للورق وهو يصادف اليوم، قلت لصديقتي سنحمل الصندوق ونحن في طريقنا إلى روما ونضعه عند المكب المخصص، يبدو أني خلال انحنائي لوضع الصندوق، أسقطت هاتفي بقربه من دون انتباهي له ثم ركبنا السيارة ومضينا، في الطريق احتجت لمهاتفة ولدي فلم أجد الهاتف، عدنا للبيت وفتشت فيه فلم أجده، ثم عدت لمكب القمامة فوجدت صندوق الأوراق كما هو وبقربه غلاف النقال الخارجي، آه ياعزيزتي كم كان مؤلماً أن أجده فارغاً، لقد نزعوا منه الهاتف ورموه، آه كمن نزع مني أحشائي، إنهم لصوص، أبناء حرام، كل شيء كان كما تركته عدا الهاتف. 

 

وكمن أعد للمشهد بالدليل، أخرجت غلاف النقال الخارجي من حقيبتها لتريها إياه، وهي تبكي مرددة لصوص أولاد حرام.

سكتت نتاشيا عند هذه الجملة التي لم تستطع أن تضف لها ما أخبرها به جهاز التنصت الصغير.

 

– هّوني عليك يا ماريا، لقد أضعتي الجوال ولم يسرقوه منك.

 

كلا، لقد سرقوه، لا يفعل ذلك إلا لص.

 

قالت ماريا بغضب قافزة من مكانها. 

 

رددت نتاشيا بهدوء: أجل معك حق، لقد سرقوه. 

 

(3)

بعد شهر وخمس عشرة ساعة اتصلت الشرطة بنتاشيا وهي في عملها، كانوا يريدون طرح بعض الأسئلة عليها في حادثة تخص ماريا ماقلوتي، حدثت أثناء تواجد نتاشيا خارج الشقة، ماريا الآن في غرفة الطوارئ بمستشفى سان كاميليو، أقرب  إلى الموت منها إلى الحياة، بعد أن شبت فيها النيران وهي تعد طعامها، كان المطبخ مشبعاً بالغاز ولم تنتبه إلى ذلك إلا بعدما أوقدت الموقد واندلعت النيران، حاولت تحت وقع الصدمة فتح النوافذ، لكنها كانت قديمة منبعجة وعصية عن الحركة، حاولت الوصول لباب الشقة وفتحه لكنه كان محكم الإغلاق ويحتاج لثلاث دقائق على الأقل لفتحه بسرعة ويحتاج لكرسي من كراسي المطبخ لفك المزلاج العلوي، حاولت الاتصال بالطوارئ لكن هاتفها كان قد ضاع أو سرق.  

حاول الجيران في الشقق المجاورة كسر الباب وإخراجها، فهم أيضاً تهددهم نيران شقة ماريا التي تستعر بسرعة في الخشب القديم. 

 

سأل الشرطي نتاشيا : منذ متى وأنت مع السيدة ماقلوتي؟

– منذ عام تحديداً.

– هل لديك عقد سكن رسمي؟ 

– كلا يا سيدي، طلبته منها ورفضت، أجرت لي استضافة فقط وأبلغت قسم الشرطة في الحي عن تواجدي معها. 

 

ابتسم الشرطي وعقب:

– يا للعجائز هنا، يتحايلون على القانون كي لا يدفعون ضرائباً، بعضهم لا يملك حتى البيت الذي يقوم بتأجير جزء منه لشخص آخر!

استمعت نتاشيا لقصة النار مدهوشة وقد توقعت أن تسمع قصة اللص. كانت النار زائراً همجياً أكثر بشاعة من الزائر الذي توقعته ماريا في كل وقت. 

كان يوماً قاسياً من قسم الشرطة إلى المستشفى، وقفت منهكة قبالة نافذة زجاجية تراقب ماريا ماقلوتي في حالتها الجديدة البائسة، كيف تركتها إنساناً في الصباح بكامل خططه وتدابيره، وكيف رأتها بعد الظهيرة مجرد لفافات بيضاء تحاول بعض الأجهزة الطبية إحيائها، إنها ليست ماريا التي عاشت معها عاماً كاملاً، وكم يصعب عليها تقبل هذه النهاية لها.  

 

رسمت أدريانا صليباً بيدها قبالة وجهها قائلة:

– يا للمسكينة! لديها حروق بليغة وإن كتبت لها النجاة ستعاني جراء استنشاق ثاني أوكسيد الكربون، ربما إصابتها ستكون في وظائف عمل الدماغ ولن تعود كما كانت! 

 

عادت نتاشيا للشقة بمرافقة أمنية، كان معها ابن ماريا و أدريانا، ستأخذ ما تجده صالحاً من حاجياتها وترحل إلى ناحية أخرى في روما، أنهى الحريق علاقتها بماريا وبالمكان وعليها أن ترحل الآن، دخلت حجرة نوم العجوز المتفحمة لوداعها، نظرت إلى الراديو، مدت يدها وأدارته، إنه يتكلم كما تتكلم أدريانا تماماً، ما من فرق، ثمة ما يجعله دائماً ينجو من جميع الحوادث رغم إسهامه في صنعها، كان به تلك اللحظات أناس يتحدثون عن الأغاني التي يغنونها عند الاستحمام، حملته نتاشيا بين يديها وألقت به أرضاً، ظل يتكلم وهو نصف منصهر ونصف مهشم.

 

أنا أغني داني مارتيني.

أنا أغني مينا، إل تشيلو إن أونا ستنسا. 

 

ثم وهي تشق طريقها بين ركام الأشياء المحترقة نظرت إلى أعلى المدخل الذي هوى نصفه و سألت نفسها:

 

لماذا لم أتصل في تلك اللحظات الحرجة حين كانت ماريا بحاجة للمساعدة؟ لماذا رغم الاحتياطات تتسرب بعض اللحظات لتبقى خارج السيطرة تمهيداً لسيطرة حدث آخر؟ إنني آسفة حقاً لأجلك يا ماريا فقد أنقذتك من حريق وفشلت في تجنيبك آخر!

 

ذلك المساء قدر لنتاشيا أن تضع رأسها في مكان جديد، ربما يعتقد كثير من سكان روما بأنه من النواحي المصدرة للصوص والغجر وأصحاب السوابق، قال ابن ماريا للخالة أدريانا:

 

– رغم هدوئها، لم أحب تلك الفتاة منذ أقامت مع أمي، إنها طالع سوء. 

وافقته أدريانا التي تؤمن بالطاقة والانعكاس متمتمة: الإيمان يمنح الإنسان الكثير من القيم، وتلك الفتاة حسب رأيي لا تؤمن بشيء على الإطلاق، إنها حصان حقل لا يتوقف عن العمل وجلب المال!

 

رسمت صليباً على صدرها متمتمة:  أجل، أجل حصان عمل، ولا تجيد حياة أخرى.

 

لن يقول فرانكو للخالة أدريانا إن نتاشيا تحتفظ بصور من سرقاته وقد هددته بفضحه إن لم يتوقف عن سرقة ماريا ماقلوتي، كما لن تخبر أدريانا فرانكو بأنها تحرشت بتلك الفتاة وقد هددتها الفتاة بفضحها عند ماريا إن لم تتوقف.

ستظل الحقيقة هائمة على وجهها بين الناس، حتى لو أفاقت ماريا من غيبوبتها بعقلها الجديد وروت شيئاً جديداً عن تلك الفتاة، أو تكلمت نتاشيا بطريقتها وكتبت قصة، عن الحصان الذي لا يتوقف عن العمل!

*****

خاص بأوكسجين


قاصة وروائية من ليبيا صدر لها العديد من الروايات والمجاميع القصصية منها: "وبر الأحصنة"" 2005، و""مضمون البرتقالي"" 2008، و""الملكة"" 2009، و""الجدة صالحة"" 2013. و""زرايب العبيد"" 2016 (ضمن القائمة القصييرة لجائزة بوكر)."