الترعة
العدد 200 | 10 تشرين الأول 2016
محمد الخولي


كان المظروف صغيرًا، معطرًا، ومزينًا بقلوب صغيرة، عليه اسمي بالكامل. وجدته في حقيبة مدرستي، عندما دخلت الفصل، فتحته بسرعة، وأنا أنظر حولي، (رسالة غرامية بشكلها التقليدي) فتحتها بلهفة، في تلك اللحظة تاه مصدر العطر، لم أعد أعرف أهو من المظروف أم من الورقة التي بداخله، أم من الكلمات المكتوبة عليها. جملة واحدة؛ “أنا الحب الذي لن يتركك أبدًا”.

طويت الورقة بسرعة وقفزت إلى الحمام، أكدت إغلاق الباب خلفي وفتحت المظروف مرة أخرى، وراجعت قراءة الورقة أكثر من مرة )لا أتذكر كم مرة قرأتها(، حفظت شكل حروفها وعدد القلوب، والألوان المزينة بها.

عدت من الحمام، ولم أستوعب أي درس في هذا اليوم، أخفيت الخطاب بين ملابسي، كنت أتحسس مكانه كل دقيقة، كل ما كنت أفكر فيه وقتها؛ كيف سأرد عليه؟  (لم أرسم له صورة في خيالي ولم أتخيل أحدًا مكانه، هو ليس كأحد فهو هو.)

كتبت أرد عليه، أحضرت مظروفًا صغيرًا، ورسمت عليه قلوبًا كثيرة، (أكثر من تلك التي كانت في رسالته الأولى)، عطرته بعطري، سألته عن اسمه ومعنى رسالته، حكيت له عن إحساسي عندما وصلتني رسالته الأولى، والخوف الذي أصابني عندما فتحتها. (هو نفس الخوف يصيبني في كل مرة أتسلم منه رسالة).

كنت أرقص وأنا أكتب له كل مرة، وعندما أنتهي أطبق الورقة وأخفيها بين ملابسي، وألقيها في الترعة، وأنا أمر على كوبري قريتنا عند الصباح، لم يكتب لي في أي خطاب منه كيفية الرد عليه، وهذه كانت طريقتي.

الترعة لم تخذلني يومًا، ستجد طريقها إليه، سيعرف أني أحلم به كل ليلة، سيضمني إلى صدره، ويترجم جملته الوحيدة “أنا الحب الذي لن يتركك أبدًا”.

الترعة تصل بين قرى كثيرة، وتربط بين أماكن متباعدة، هذه المياه جاءتنا من جنوب الجنوب، من أقصى القارة السمراء اخترقت الصحاري، ومرت بالغابات، حملت من هذه البلاد البعيدة خيرات كثيرة، وصلت بها إلى قريتنا، تلك القطرة التي تزاحم مثيلاتها في الماء هربت من بين أصابع حبيبين كانا يمرحان على شاطئ من شواطئه البعيدة، لا بد أنهما كانا يلعبان في سعادة، الماء يرقص في مكانه.

ستكون هي رسولي، ستصل رسائلي يومًا، ستفكك المياه حروف كلماتي وسيختلط حبري بالماء الجاري، ستذهب تلك المياه إلى بيته، يشرب منها، ويعرف أنني أشتاق إليه، أو ستسقي زرعةً يأكل منها ويعرف أنني أحتاج إليه.

تكررت رسائله ولم يتغير ما بها، جملة واحدة؛ “أنا الحب الذي لن يتركك أبدًا”، لم يكتب اسمه، ولم يخطئ في مرة ويكتب حتى أول حرف منه، أيام كثيرة ولم يغير جملته، كان يغير فقط طريقته في إرسال الخطاب، مرة أجده في شنطتي ومرة في كتاب المادة التي أنوي مذاكرتها، ومرات كثيرة كان يعلقه في شباك حجرتي ويدق عليه مرة واحدة، أفتح الشباك فأجد الرسالة مربوطة بطرف خيط، أوله في الشباك والثاني يداعبه الهواء، ألتقطه، أغلق الباب، وأجري إلى سريري. كيف يعرف أنني في الغرفة في هذا التوقيت؟ ومن أين جاءته ثقة أنني سأسمعه من طرقة واحدة على الشباك؟ وكيف كان يعرف أنني في انتظاره؟ إنه يعرف ما لا أعرفه عن نفسي، كان يفاجئني كل مرة، نفس الكلمات لكنها في كل مرة كانت تبلغني برسالة مختلفة، خطه كان يعبّر عن حالته، أصبحت خبيرة في قراءة حالته وأعرف رأيه في تصرفاتي من حروفه.

كانت حروفه غاضبة، عندما ذهبت مع أمي إلى بيت خالي، لا بد أنه يعرف رغبة خالي في أن أكون عروسة ابنه الوحيد، هي نفس الحروف التي وجدتها في رسالته التي وصلتني بعد رحلتي مع أصدقائي لغيط الذرة، وعودتي معهن في ساعة متأخرة من الليل، كنت أحس غيرته وقلقه من رسم الحروف.

تعاملت معه على أنه الحبيب الأول، كنت أسمع عن تلك العلاقات الغرامية الأولى، جنونها، وأخطاءها، ومشكلاتها، حكت لي صديقتي يومًا، عن “علقة محترمة” كانت من نصيبها عندما ضبطها والدها تتسلم خطابًا غراميًّا من زميل لها في الابتدائية، كبرت وأصبحت في الثانوي وتعلمت كيف تخفي هذه الخطابات بين ملابسها، أو بين الكتب التائهة في غرفتها، تعلمت طريقتها في إخفاء الخطابات، كنت أشم العطر كلما مررت بجوار دولابي.

مرّ عام، ولم يبدل جملته، ولم يصبني الملل من التكرار “أنا الحب الذي لن يتركك أبدًا”، (أنا هنا أيضًا أكررها الآن بلا ملل)، نجحت، واستقبلت التهاني، كتبت إليه أشاركه فرحي، وأحلامي في الكلية التي أتمناها، أبشره بالقيود التي سيفكها الوضع الجديد، (فتاة ريفية تدخل الجامعة وستفتح أمامها كل الأبواب، بلا قيود أبوية ولا أوامر أخوية ولا تسلط عائلي)، ألقيت بالرسالة في صندوقي البريدي، (الترعة)، وانتظرت رده، كنت أشعر أنه سيكون مختلفًا هذه المرة، ليالٍ طويلة مرت وأنا أنتظر، أجري على شباكي، وأقلب شنطتي، ولا أجد شيئًا، إنها المرة الأولى التي أحتاج إليه فيها بحق، (أكذب الآن عليكم فأنا كنت أحتاج إليه طوال الوقت)، وجعني فراقه، وتغير حالي، سألتني صديقتي وأمي وأبي، عن السبب ولم أجب! لم يكن لديَّ ما أجيب به عن أسئلة كثيرة أسألها لنفسي قبلهم وحيرني عدم وجود إجابة عليها.

لم ألتق به مرة، ولم يحدثني بغير الخطابات صاحبة الجملة الواحدة، “أنا الحب الذي لن يتركك أبدًا”، ما هذا الفراق الذي بدأ قبل أن ألتقيه، قلبي لا يحتمل كل هذا الشقاء، أعرف أنه يشعر بي الآن، ينظر إليَّ من مكانه البعيد، يرى حيرتي وقلقي وسهري، مؤكد سيأتيني في المساء أو الصباح، ليس مهمًّا متى يأتي أنا أريده الآن. رفعتُ غطاء سريري، وانكمشت تحته، وشعرت بالبرد في صيف أغسطس، ونظرت إلى الدولاب، وقفزت إليه، أُسقط كل ما به على الأرض، أبحث عن مظروف أشم رائحة عطره في أنفي فلم أجد.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من مصر.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: