التاريخ السري للحرب العالمية الثالثة
العدد 274 | 09 كانون الأول 2022
بالارد | ترجمة: سامر أبو هواش


الحبُّ في مناخ أبرد

لو قرأ أحدهم هذا الاعتراف في 1989، العام الذي وُلدتُ فيه، لتعجب جرَّاء تذمُّري من الظروف الراهنة التي لا بدَّ من أنها، في كلّ منحى من المناحي، تُماثِل الفردوس. بيد أنّ فردوس الأمس يغدو بسهولة شديدة جحيم اليوم. الحُلْم الشهواني الأعظم للبشرية، الذي رفع معنويات الشعراء والرسَّامين، والرؤساء والفلَّاحين، تحوَّل بعد اثنَيْن وعشرين عاماً فحسب، كابوساً حَيَّاً. بالنسبة إلى شباب جيلي (كلمة الجيل تجعل القلب، إن لم يكن مواضع أخرى أيضاً، يرتعش)، أصبح الوضع مَيؤُوساً منه إلى درجة أنّ أيّ فرار يبدو مبرَّراً. ربَّما يكون الثمن الذي دفعتُهُ مقابل حُرِّيَّتي باهظاً، لكنني سعيد بأنني قمتُ بهذه المقايضة الغريبة، إن لم أقل الوحشيّة.

بعد فترة وجيزة من بلوغي الحادية والعشرين، أُمرتُ بالتجنُّد للخدمة الوطنيّة لمدَّة عامَيْن، وأذكر أنني فكّرتُ كم سأكون موضع حسد أبي وجَدِّي. في أُمسيَّة صيفية وادعة من العام 2010، بعد يوم مُتعب في كُلِّيَّة الطبّ، قرعتُ باب شُّقَّة تملكها شابّة جذّابة أُعطيَت اسمها مُسبَّقاً. لم ألتقِها يوماً، لكنني كنتُ واثقاً أنها ستُحيِّيني بأكثر الطُّرُق ودّية؛ ودّية إلى درجة أننا في غضون دقائق سنكون مضطجعَيْن عاريَيْن معاً في السرير. وغنيٌّ عن القول إنّ المال لا صِلَة له بالموضوع، فلا أنا ولا هي يمكن أن نؤدّي دورينا لقاء ما هو أقلّ من أكثر الدوافع وطنيّة. إلَّا أنّ كِلَيْنا يكره سلفاً منظر الآخر ومَلمَسه، ولن يتنفَّس براحة إلَّا عند الافتراق بعد ساعة.

ومثلما هو متوقَّع، فقد كشف الباب عن شقراء واثقة من نفسها ذات ابتسامة مرحِّبة إن لم تكن جسورة. وبحسب بطاقة تكليفي، كان اسمها فيكتوريا هايل، صحافية مالية في مجلَّة أسبوعية. نظرتْ مليّاً إلى وجهي وملابسي كأنّها تفحص متقدِّماً بليداً لوظيفة في شركة.

قرأتْ اسمي على بطاقة التكليف الخاصَّة بها، محاولة السيطرة على انفعالها: “دافيد برادلي؟ أنتَ طالب طبّ … كم هذا رائع”.

“من الرائع لقياكِ يا فيكتوريا، لطالما اهتممتُ بالتعرَّف على … الصحافة المالية”.

وقفتُ بصورة غريبة وسط شُقَّتها، وباتت رِجْلاي ثقيلَتَيْن كالرصاص. تلك الأسطر من الحوار، مثل التي تبعتْها، بدت مدَّعية حين نطقتُها أوَّل مرَّة. لكنّ المشرف عليَّ ألحَّ على الالتزام بالنصِّ، وبعد ثلاثة أشهر من الخدمة الوطنيّة، بتُّ مدركاً أنّ الحوار الرسميّ، مثل لباسنا العبثي، يوفِّران ستارة نستطيع أن نُخفيَ خلفها مشاعرنا الحقيقية.

كنتُ أرتدي بدلة “برينس فاليانت” النموذجية، والتي أكَّد مسح حصيف لبرامج التلفزيون في الستِّينيَّات أنه الزِّيَّ الأكثر جاذبية جنسياً للذَّكَر المفترس. في بدلة كتلك، أوصل إلفيس بريسلي أُمَّهات لاس فيغاس إلى النشوة، وإن وجدتُ أنّ شرابات البِزَّة وشاراتها الذهبية ومنشعبها الضيِّق، مريحة بقَدْر الزينة على شجرة الميلاد.

أمَّا فيكتوريا هايل، فارتدت اللباس الكلاسيكي لمضيفة “بلايبوي” من الحِقْبَة نفسها. حين قدّمت لي قَدْراً محدوداً من الفودكا، تمكّن نهداها من أن يكونا مَخفيَّيْن ومعروضَيْن في آن معاً بطريقة لا بدَّ من أنّ جيلاً أسبق وجدها مغرية بصورة لا تُقاوم، مثل ذيل الأرنب الذي أخذ يتقافز على مؤخِّرتها مثل بندول فرويّ جعلني أنظر إلى ساعة مِعْصَمي.

قالت بجدِّيَّة: “سيّد برادلي، يمكننا الانتهاء من الأمر الآن”. كانت قد خرجت عن النصّ، لكنها أضافت سريعاً: “أَخبرْني عن عملكَ يا دافيد. أرى أنكَ رجل مثير للاهتمام”.

كانت ضجرة بقَدر ما كنتُ مضطرباً معها، لكننا في غضون دقائق سنكون معاً على السرير. وإن حالفني الحظّ، فإنّ نظامي الهورموني والعصبي سوف يأتيان لإنقاذي ويصلان بلقائنا إلى ذروته. سوف نقدّم لبعضنا بطاقات التكليف، ونعود شاكرين إلى حياتنا الاعتيادية. إلَّا أنه في الأُمسيَّة التالية تماماً، شابّ آخر ببدلة “برينس فاليانت” سيقرع باب الشُّقَّة، وسوف تُحيِّيه هذه الصحافية المثقّفة بزِيِّها الغريب. وأنا، في المقابل، عند الساعة الثامنة، سأضع كُتُب التشريح جانباً وأنطلق في الشوارع الكئيبة إلى لقاء مرتَّب في شُقَّة مجهولة، حيث شابّة جميلة ما، طالبة أو نادلة أو موظَّفة في مكتبة، ستُرحِّب بي بالابتسامة الإلزامية نفسها، وتصحبني برزانة إلى السرير.

لكي يفهم المرء هذا العالم الغريب الذي بات فيه الجنس إكراهياً، يجب أن يعود إلى الخراب الذي شهده العقد الأخير من القرن العشرين، بسبب الأيدز وجائحة مرتبطة بهذا الفيروس لا تتوقّف عن التحوّر. بحلول منتصف التسعينيَّات بدأت الجائحة الشرسة تهدِّد ملايين الأفراد. مؤسَّستا الزواج والعائلة، مثل الأُبُوَّة، والعقد الاجتماعي بين الجنسَيْن، حتَّى العلاقة الجسدية بين الرجال والنساء، فسدت بسبب هذا المرض العُضال. وفي خضمِّ رعبهم من الإصابة، تعلَّم الناس الامتناع عن أشكال التواصل الجسدي أو الجنسي كافَّة. من سنّ البلوغ فصاعداً، بات ثمَّة حاجز يكاد يكون مرئياً بين الجنسَيْن. في المكاتب والمعامل والمدارس والجامعات، احتفظ الشبّان والشابّات بمسافة من بعضهم البعض. كان والداي في الثمانينيَّات من الجيل الأخير الذي يتزوَّج دون خشية ممَّا قد ينتج عن ذلك. بحلول التسعينيَّات، باتت الخِطْبَة والزواج تتبعهما سلسلة من الأمراض الغامضة والزيارات القلقة إلى العيادات، والتشخيص الإيجابي والانتهاء في جناح الحالات الميؤوس منها.

في مواجهة انخفاض معدَّلات الولادة، ومع أُمَّة مكوَّنة كُلِّيَّاً تقريباً من الأعزاب الوحيدين، لاذت الحكومة بأدواتها التقليدية: التشريع والإكراه. بتفويض كامل من الكنيسَتَيْن البروتستانتية والكاثوليكية، استقبلنا الألفية الثالثة بالإعلان الفوري عن أنه من الآن فصاعداً سيكون الجنس إجبارياً. كلُّ مَنْ يتمتَّعون بالصحَّة والخصوبة وليسوا مصابين بالإيدز من الرجال والنساء، صاروا مُرغَمين على التسجيل للقيام بواجبهم الوطني. عند بلوغ الشخص الحادية والعشرين من عُمُره، يُعيَّن له مشرف شخصي (عادة ما يكون رجل دين محلِّيَّاً، فالكهانة وحدها لها السِّمات التي تمكِّنها من الضلوع بمهمَّة كهذه)، يضع قائمة بالمزاوجات المحتملة، ويرتِّب برنامجاً للعلاقات الجنسية. وفي غضون عام، كان المأمول أن يرتفع معدَّل الولادات، بما يسمح بإعادة تأسيس مؤسَّسة الزواج والعائلة.

في البداية، اقتصر الأمر على مهمَّة واحدة أسبوعياً، لكنّ معدَّلات الولادة ظلَّت تأبى التجاوب، ربَّما نتيجة للفشل الجنسي لأولئك الأعزاب. وبحلول العام 2005، ارتفع عدد المهمَّات الإجبارية إلى ثلاث كلَّ أسبوع. وبما أنه لا شيء يُترَك للطبيعة، فإنّ المشاركين يُمنَحون أزياء مصمّمة لزيادة جاذبيَّتهم. إضافة إلى “برينس فاليانت” وفتاة “بلايبوي”، هناك ملابس النادل القشتالي واللصّ الغجريّ للرجال والمشجّعة الرياضيّة وملكة جمال أمريكا بملابس السباحة.

مع ذلك، فقد كان أوائل المشاركين يجلسون معقودي الألسن لساعات، غير قادرين على التقرُّب من بعضهم البعض، ناهيكَ عن إمساك أيدي بعضهم. ومنذ ذلك الحين بدأ تدريبهم بعناية على فنون الغرام من قبَل المشرفين عليهم الذين يعرضون عليهم أفلاماً إباحية في قاعات الكنائس، التي باتت الآن مستودعات للأفلام والمجلَّات الإباحية.

ومثلما يمكن توقُّعه، كان أُفق الخضوع لعامَيْن من الجنس الإلزامي، مكروهاً بعمق من قبَل الشبّان والشابّات. فبدؤوا يتهرَّبون من التجنيد بشتَّى الطُّرُق، بما في ذلك عبر قطع القناة الدافقة، وصار يُحكَم على مرتكبي ذلك بإعادة زرع الخصى. ولمنع الشباب من الإخفاق في أداء واجباتهم الجنسية، كانت شبكة من المفتِّشين السرِّيِّيْن (عادة يكونون كُهَّاناً مبتدئين وراهبات مبتدئات، بما أنهم هم وحدهم يملكون الروح الضرورية من التضحية الذاتية)، تراقب المشاركين وتفرض غرامات كبيرة مباشرة على أيّ تهرُّب أو افتقار للحماسة.

هذا كلُّه، ترك في النهاية أثراً على معدَّلات الولادة التي بدأت ترتفع على مضض. كانت الأخبار مصدر عزاء قليل لمَنْ هم مثلي، ممَّنْ يُجبَرون كلَّ مساء على ترك بيوتهم والسير في الشوارع في طريقهم إلى ساعة أخرى من الجنس الخالي من الحبِّ. كم تقتُ إلى يونيو 2012، حين أُنهي فترة واجباتي الوطنية، وأبدأ بحياتي الحقيقية من العزوبية الأبديّة.

إلَّا أنّ تلك الأحلام انتهت فجأة في ربيع 2011، حين زرتُ لوسيل ماكابي. بعد اللقاء بها أفقتُ لأكتشف عالماً من الشغف والعاطفة لم أكن أحسبه موجوداً، وبدأتُ أحقِّق طموح حياتي بطريقة لم أكن أتوقعها.

كانت لوسيل ماكابي، مهمَّتي في ذلك المساء، تعيش في حَيٍّ إسباني في المدينة، ولتجنُّب صافرات السخرية – أولئك منَّا الذين يؤدُّون واجبهم الوطني كانوا عرضة للسخرية لا الحسد – ارتديتُ زِيَّ النادل القشتالي. كانت الشُّقَّة تقع في مبنى متهالك محاط بسلسلة من سلالم النجاة. حملني مِصْعَد مخصَّص على ما يبدو لمتحف من العمارة الصناعية بعنف إلى الطابق السابع. كان الجرس معلَّقاً بشريط واحد مكشوف، واضطررتُ إلى القرع مرَّات عدَّة على الباب. جعلني الصمت آمل بأنّ السيّدة ماكابي، وهي مُحاضِرة بالأدب الإنجليزي قد تهرَّبت من واجبها ذلك المساء.

لكنّ الباب فُتح بحركة قويّة، كاشفاً عن شابّة ضئيلة بيضاء الوجه ذات شَعْر أسود مجعَّد، ترتدي ثوب رقص بولكا، جعلها شبيهة بمهرِّجة في السيرك.

بادرتُها قائلاً: “سيّدة ماكابي ..؟ هل أنتِ …”.

“مستعدَّة للطلب؟”.

نظرتْ بعَيْنَيْن واسعَتَيْن ساخرَتَيْن إلى رداء النادل: “أجل، سوف أطلب باييا مع طبق غامباس جانبي، ولا تنس التاباسكو …”.

“التاباسكو؟ اسمعي، أنا دافيد برادلي، شريككِ من أجل …”.

“استرخِ يا سيّد برادلي”، أقفلتِ الباب، وأخرجتِ المفتاح من القفل، ولوَّحت به في وجهي: “كانت مزحة. أَتَذكُر تلك المزحات؟”.

“قليلاً فحسب”.

بدا جليّاً أنني أمام فتاة متمرِّدة، إحدى الشابّات المشاكسات اللواتي يتصرَّفنَ بطريقة مرحة للتهرُّب من وطأة الموقف: “حسناً من الرائع رؤيتكَ لوسيل، لطالما أردتُ المعرفة عن الأدب الإنجليزي”.

“انسَ الأمر. منذ متى وأنتَ تقوم بذلك؟ أنتَ لا تبدو مخدَّراً تماماً”.

وقفت مُديرةً ظهرها لي أمام رفٍّ مليء بالكُتُب، وأصابعها تطرق على الكُتُب كأنّها تبحث عن دليل سوف يقدِّم حلَّاً للمعضلة التي طرحها وصولي. ورَغْم كلِّ الجرأة، فقد كان كتفاها يرتعشان.

“هل أقدّم لكَ شراباً؟ لا أستطيع تذكُّر النصِّ الفظيع”.

“دعكَ من الشراب. يمكننا المضي مباشرة في الأمر، إن كنتَ على عجلة من أمركِ”.

“لستُ على عجلة من أمري على الإطلاق”.

مشتْ بتخشُّب إلى غرفة النوم وجلست مثل مراهقة حانقة على سرير فوضويّ. لم تكن الجلسات التثقيفية، تلك الساعات الطويلة من مشاهدة الأفلام الإباحية في قاعة الكنيسة، قد أعدَّتْني لهذا كلِّه – الزّيّ غير النظامي، المُلَاءَات غير المرتَّبة، غياب التودُّد. أَكانت نوعاً من المفتِّش المتخفِّي، عميل استفزازي يستهدف المنحرفين المحتملين من أمثالي؟ كنتُ قد رأيتُ معدَّل عملي يزداد إلى سبع أُمسيَّات في الأسبوع. وبعد ذلك التهديد الفظيع بزيادة معدَّلات التستسترون …

ثمَّ لاحظتُ بطاقة المهمَّة الخاصَّة بها ممزَّقة على سجَّادة تحت قَدَمَيْهَا. ليس من مفتِّش، مهما كان مخادعاً، قد يمزِّق بطاقة مهمَّة.

متسائِلاً كيف أُسلِّيها، تقدّمتُ خطوة إلى الأمام. لكنْ، حين عبرت الغرفة، برزت في وجهي يد صغيرة قوية.

“الزم مكانكَ!”، نظرتْ إليَّ نظرة يائسة لطفل يتعرَّض لهجوم، ولاحظتُ أنها رَغْم كلِّ شراستها كانت مجنَّدة جديدة، ربَّما كانت تلك مهمَّتها الأولى. أخذ شَعْرها المجعَّد يرتعش مثل ريش طاووس.

“حسناً، يمكنكَ الدخول. أَتريد أن تأكل شيئاً؟ يمكنني أن أضمن لكَ أفضل بيض مخفوق في المدينة، يداي ترتعشان كثيراً. كيف تتعامل مع هذا كلِّه؟”.

“لم أعد أفكِّر في الأمر”.

“لا أفكِّر بأيِّ شيء آخر. اسمع يا سيّد برادلي، دافيد، أو أيَّاً يكن اسمكَ، لا أستطيع المضي قُدُمَاً في هذا، لا أريد الشجار معكَ …”.

رفعتُ يدي، وقد بدأتُ أفكِّر بالأُمسيَّة التي باتت حُرَّة: “لا تقلقي، سوف أرحل. القواعد تمنعنا من استخدام القوَّة، لا صراع بالأيدي ولا مصارعة”.

“كم هذا حسَّاس. وكم مختلف عن أيَّام جَدَّتي”.

ابتسمتِ ابتسامة سريعة، كأنّها تتخيَّل المغازلة التي أدَّت إلى تكوينها في بطن أُمِّها. رفعت كتفَيْها بتوتّر، وتبعتْني إلى الباب: “ماذا سيحدث الآن؟ أعرف أنكَ يجب أن تُبلِّغ عنِّي”.

“حسناً … ليس من شيء خطير جدَّاً”.

تردَّدتُ في أن أصف لها جلسات الاستشارة الطويلة التي تنتظرها، أسابيع خنقها من قبَل راهبات يعرضنَ عليها الفيديوهات. بعد كلّ الكلام، يأتي العلاج الكيماوي، حيث تُخدَّر إلى درجة أنها لا تعود تكترث بأيِّ شيء، وسوف تُغمض عَيْنَيْهَا وتفكِّر في واجبها الوطني والجيل المقبل، والملاعب المليئة بالأطفال الضاحكين الذين واحد منهم سيكون ولدها … قلتُ: “ما كنتُ لأقلق. إنهم متحضِّرون للغاية. على الأقلّ سوف تحصلين على شُقَّة أفضل”.

“آه شكراً. ذات يوم، لا بدَّ من أنكَ كنتَ عذباً. لكنهم وصلوا إليكَ في النهاية”.

أخذتُ مفتاح الباب من يدها، متسائلاً كيف أُهدِّئ من روعها. كان الصباغ يجري على جبينها المَطلِيّ بالمسحوق، خطّ معركة أُعيد رسمه على دماغها. وقفتْ مديرة ظهرها إلى رفّ الكُتُب، مثل بوديكا[1] تقف في مواجهة الجحافل الرومانية. رَغْم تعاستها، كان لديَّ شعور غريب بأنها قلقة عليَّ بقَدْر قلقها على نفسها، وأنها تحاول أن تجد استراتيجية ما تُنقذنا معاً.

أقفلتُ الباب وأعدتُ غلقه: “لا … لن يصلوا إليكِ، ليس بالضرورة”.

بدأتْ علاقة الحبِّ بيني وبين لوسيل ماكابي تلك الأُمسيَّة، لكنّ تفاصيل حياتنا معاً، تنتمي إلى المجال الحميم. ليس أنه هناك أمور داعرة للكشف عنها. مثلما حصل الأمر، فإنّ علاقتنا لم تكتمل بالمعنى الجسدي، لكنّ هذا لم يلغِ بأيّ حال من الأحوال افتتاني العميق بهذه الشابّة الرائعة. بعد سنوات طويلة من الخدمة الوطنيّة، وبعد مئات الـ “ربيكات” المتردِّدات والـ “سوزانات” الرزينات، سرعان ما شعرتُ أنّ لوسيل ماكابي هي المرأة الوحيدة التي عرفتُها حقَّاً. خلال الأشهر الستَّة من علاقتنا السرِّيَّة، اكتشفتُ فيضاً من العاطفة والحبِّ جعلني أحسد الأجيال السابقة.

في البداية، كان هدفي الوحيد إنقاذ لوسيل. فزوَّرتُ التواقيع، وخدعتُ مشرفاً مشوَّشاً مربكاً بمبنى الشقق المتداعي، توسَّلتُ أو رشوتُ أصدقاء لتبادل نوبات العمل، وادَّعت لوسيل الحبل بمساعدة موظَّف فاسد في المختبر. كان الزواج أو أيّ علاقة أُحادية ممنوعَيْن خلال فترة الواجب الوطني، فالهدف المُرتَجَى هو ممارسة الجنس المفتوح، وتحريك بركة الجينات إلى أقصى حَدٍّ ممكن. مع ذلك، فقد تمكّنتُ من تمضية معظم أوقات الفراغ الخاصَّة بي مع لوسيل، مؤدِّياً دور العاشق والحارس الليليّ، والجاسوس والحارس الشخصي. هي، في المقابل، حرصتْ على ألَّا أُهمل دراستي الطبّ. ما إن أتأهَّل وهي أيضاً تتحرَّر وتصبح قادرة على الزواج، حتَّى نصبح زوجاً وزوجة في ظلِّ القانون.

بصورة حتمية، فَضح أمرنا مشرفٌ متشكِّك مع كمبيوتر فائق الحساسية. كنتُ قد أدركتُ أنّ أمرنا سيُكشَف، وخلال الأشهر الأخيرة تلك صرتُ أكثر فأكثر حمائية تجاه لوسيل، شاعراً حتَّى بأوَّل نوبات الغَيْرَة عليها. كنتُ أحضر محاضراتها، من المقاعد الخلفيّة، كارهاً أيّ طالب يسأل سؤالاً مستفيضاً. ونزولاً عند إلحاحي تخلَّت عن شَعْرها “البانك” لصالح مظهر أقلّ استثارة، وأخفضت عَيْنَيْهَا بتواضع كلَّما مرَّ بها رجل في الشارع.

كلُّ هذا التوتُّر انفجر مع وصول المشرف إلى شُقَّة لوسيل. منظر هذا الراهب الشابّ الداكن العَيْنَيْن، في زِيِّ اللصِّ الغجريّ، ناطقاً بكلماته المتودِّدة وهو يقود بخبرة لوسيل إلى غرفة النوم، تبيَّن أنه يفوق احتمالي. فاستسلمتُ لموجة من العنف، وطردتُهُ من الشُّقَّة.

استُدعيت الشرطة وسيَّارة إسعاف، وانتهت خطَّتنا. أُودعت لوسيل في مركز تأهيل كان في السابق كنيسة ومأوى للأُمَّهات الساقطات، وحُوكمت أمام محكمة وطنيّة مدنيّة.

احتججتُ عبثاً بأنني أريد التزوُّج من لوسيل وأن أكون والد طفلها، وأنني أتصرَّف كالذكور القدماء، وأنني شغوف بزوجتي وعائلتي المستقبليَّيْن.

لكنّ هذا، قيل لي، كان انحرافاً أنانياً. أدانتني المحكمة بارتكاب جنحة رومانسية، وبأنّ لديَّ رؤية مثالية تمجِّد النساء. حُكم عليَّ بثلاث سنوات أخرى من الواجب الوطني.

لو رفضتُ ذلك، لواجهتُ العقوبة القصوى.

مُدرِكاً أنه باختياري الخيار الأخير سوف أتمكَّن من رؤية لوسيل، اتَّخذتُ قراري. يئستِ المحكمة منِّي، لكنْ، كتنازل سخيّ منها لطالب طبٍّ سابق، فقد سمحتْ لي باختيار الجرَّاح بنفسي.

1989

التاريخ السرِّي للحرب العالمية الثالثة

الآن وقد انتهت الحرب العالمية الثالثة بسلام، أشعر بالحُرِّيَّة للتعليق على ناحيتَيْن مذهلَتَيْن متعلِّقَتَيْن بالمسألة المرعبة برمّتها. الأولى، أنّ هذه المواجهة النووية التي لطالما أثارت الذعر بسبب التوقُّعات الواسعة النطاق بأنها قد تمحو كلَّ أشكال الحياة على الكوكب، لم تستمرّ في الواقع لأكثر من أربع دقائق. هذا سيُفاجِئ كثراً ممَّنْ سيقرؤون هذه الوثيقة، لكنّ الحرب العالمية الثالثة وقعت في السابع والعشرين من يناير 1995، بين الساعة السادسة وسبع وأربعين دقيقة والسادسة وإحدى وخمسين دقيقة، بالتوقيت الشرقي. مدَّة الاشتباك بأكملها، منذ إعلان الرئيس ريغان الحرب رسمياً، إلى إطلاق خمسة صواريخ نووية بَحْرِيَّة (ثلاثة صواريخ أمريكية وصاروخان روسيان)، إلى بداية محادثات سلام، والهدنة بين الرئيس الأمريكي والسيّد غورباتشيف، لم تستمرّ أكثر من 245 ثانية. الحرب العالمية الثالثة انتهت قبل أن يدرك أحد أنها حصلت.

السمة الثانية المذهلة للحرب العالمية الثالثة، هي أنني على ما يبدو الشخص الوحيد الذي يعرف أنها وقعت يوماً. قد يبدو غريباً أن يكون طبيب أطفال يعيش في أرلينغتون، على بُعد كيلومترات قليلة إلى الغرب من واشنطن العاصمة، هو الوحيد الواعي لهذا الحدث التاريخيّ الفريد من نوعه. في نهاية المطاف، أخبار كلّ خطوة في الأزمة السياسية المتفاقمة، وإعلان الرئيس المريض للحرب وتبادل إطلاق الصواريخ النووية، بُثَّت علانية على التلفزيون الوطني. الحرب العالمية الثالثة لم تكن سرَّاً، لكنّ عقول الناس كانت موجَّهة نحو أمور أهمّ. في خضمِّ قلقهم الهَوَسي على صحَّة قيادتهم السياسية، تمكَّنوا بمعجزة من تجاهل التهديد الأعظم لرفاهيتهم الخاصَّة.

بالطبع، حين أقول إنني الوحيد الذي شهد الحرب العالمية الثالثة، فهذا ليس بالمعنى الصارم للكلمة. إذ إن عدداً محدوداً من كبار القادة العسكريِّيْن في الناتو ووارسو، والرئيس ريغان، والسيّد غورباتشيف ومساعديهما، وضبَّاط الغوَّاصات الذين ضغطوا على رموز إطلاق الصواريخ النووية، وأرسلوها في طريقها إلى مناطق غير مأهولة من ألاسكا وشرق سيبيريا، كانوا مدركين تماماً أنّ حرباً قد أُعلنت، وأنه اتُّفق على وقف لإطلاق النار بعد أربع دقائق. لكنني لم ألتقِ أحداً من عامَّة الناس ممَّنْ سمعوا بالحرب العالمية الثالثة.

كلَّما أشرتُ إلى الحرب، يحملق بي الناس بارتياب. وقد سحب العديد من الأهالي أطفالهم من العيادة، قلقين على ما يبدو من اضطراب صحَّتي النفسي. يوم أمس فقط اتَّصلتْ إحدى الأُمَّهات ممَّنْ ذكرت الحرب أمامها عرضاً بزوجتي لكي تعرب عن قلقها. لكنّ سوزان، مثل الجميع، كانت قد نسيت الحرب، وظنّت أنني قمت بتشغيل أشرطة الفيديو الخاصَّة بها من نشرات “سي بي سي” و”أن بي سي” و”سي إن إن” في السابع والعشرين من يناير، التي أعلنت بالفعل بدء الحرب العالمية الثالثة.

أُرجِعَ كوني الوحيد الذي علم بالحرب العالمية، إلى الميزة الغريبة لفترة حُكْم ريغان الثالثة. ليس من قبيل المبالغة القول إنّ الولايات المتَّحدة، مثل معظم العالم الغربي، افتقدت ذلك الممثّل الودود المسنّ الذي تقاعد في كاليفورنيا في 1989، بعد تتويج خليفته الأقلّ حظَّاً. تعقيدات مشكلات العالم – أزمة الطاقة المتجدّدة، الحرب الإيرانية العراقية الثانية، الاضطرابات في جمهوريات الاتِّحاد السوفييتي الآسيوية، التحالف المُقلِق في الولايات المتَّحدة بين الإسلام والنسوية المسلَّحة – جميعها أثارت موجة من الحنين لسنوات حُكْم ريغان. كان ثمَّة ذكرى مشبوبة بالعاطفة لأخطائه وعيوبه؛ ميله (الذي يشاركه إيَّاه ناخبوه) إلى مشاهدة التلفزيون مرتدياً البيجاما بدلاً من الاهتمام بالمسائل المهمَّة، وخَلْطه بين الواقع والأفلام التي يتذكَّرها بصورة ضبابية من شبابه.

احتشد السيَّاح بالمئات أمام بَوَّابات منزل التقاعد الخاصّ بريغان في بيل آير، ومن وقت لآخر كان الرئيس السابق يخرج ليقف على الشرفة. وهناك، بتحريض من نانسي، ينطق بعض الكلمات الودودة العامَّة التي تجعل عيون المستمعين تغرورق بالدموع، وترفع معنوياتهم وترفع معها مؤشِّرات أسواق المال حول العالم. حين وصلت مدَّة حُكْم خليفته إلى نهايتها التعسة، كان إقرار التعديل الدستوري المطلوب سريعاً للغاية في مجلس النوَّاب والشيوخ معاً، بهدف جليّ، وهو رؤية ريغان يستمتع بفترة رئاسية ثالثة في البيت الأبيض.

في يناير 1993، توافد أكثر من مليون شخص لحضور حفل تتويجه في واشنطن، في حين شاهد بقية العالم الحفل على شاشات التلفزة. لو كان للعين الكاثودية أن تبكي، فقد فعلت ذلك في حينه.

مع ذلك، ظلّت بعض الشكوك قائمة، بينما الأزمة السياسية العظمى للعالم رفضت بعناد أن تنتهي حتَّى بابتسامة الرئيس المسنّ في حفل تتويجه. الحرب العراقية الإيرانية هدَّدت بتورُّط تركيا وأفغانستان بها. وفي تحدٍّ للكرملين، بدأت الجمهوريات الآسيوية في الاتِّحاد السوفييتي تشكِّل ميليشيات مسلَّحة. إيف سانت لوران صمَّم أوَّل شادور للنسويات المسلمات في عالم الموضة في مانهاتن ولندن وباريس. هل تستطيع حتَّى رئاسة ريغان التعامل مع عالم منحرف إلى هذا الحَدِّ؟

شكَّكتُ وزملائي الأطبَّاء الذيم شاهدوا الرئيس على التلفزيون بجدِّيَّة في ذلك. في ذلك الوقت من صيف 1994، كان رونالد ريغان يبلغ من العُمُر ثلاثة وثمانين عاماً، وقد ظهرت عليه جميع علامات الخَرَف المتقدِّم. ومثل الكثير من المسنِّين، استمتع ببضع دقائق يومياً من الصحو المتواضع، والتي ينطق خلالها بضع ملاحظات مأثورة، ثمَّ يغرق في غروب زجاجيّ آخر. كانت عيناه غائمَتَيْن إلى حَدِّ أنه لا يستطيع قراءة الشاشة، لكنّ فريق البيت الأبيض استفاد من جهاز سمع كان يضعه دوماً على أُذُنَيْه، بحيث يتمكَّن من الكلام عبر تكرار ما يسمعه في أُذُنه مثل طفل. كانت لحظات التوقّف تخضع للتحرير من قبَل شبكات التلفزة، لكنّ مخاطر جهاز التحكّم عن بعد تجلَّت حين أرعب الرئيس، مخاطباً أُمَّهات أمريكا الكاثوليكيات، الصفوف العريضة من السيّدات المحافظات بتكرار عبارة مهندس صوت في الاستوديو كان يقول: “أَزِحْ مؤخِّرتك، يجب أن أتبوَّل”.

وراح قلَّة من الناس يتساءلون، وهم يشاهدون هذا الرجل الآليّ بابتساماته الغريبة وضحكته البلهاء، ما إذا كان ميتاً دماغياً، أو إن كان حَيَّاً في المقام الأوَّل. ولبثِّ الطمأنينة في نفوس الجمهور الأمريكي القلق، المتململ جرَّاء هبوط سوق الأسهم وأخبار التمرُّد المسلَّح في أوكرانيا، فقد شرع أطبَّاء البيت الأبيض في إصدار تقارير منتظمة عن صحَّة الرئيس. وأكّد فريق من أخصائيِّي مشفى “والتر ريد” للأُمَّة أنّه يتمتَّع ببُنية جسدية قوية وبالقوَّة العقلية لرجل يصغره بخمسة عشر عاماً، ونشر الفريق تفاصيل دقيقة عن مستوى ضغط دمه، ومعدَّل الكريات الحمر والبيض في دمه، ومؤشّرات نبضه وتنفّسه، بُثَّت جميعاً على شاشات التلفزة الوطنية، وهو ما كان له تأثير مباشر في تهدئة النفوس. وفي اليوم التالي أظهرت أسواق الأسهم ارتفاعاً ملحوظاً، وانخفضت معدَّلات الفائدة، وتمكّن السيّد غورباتشيف من إعلان أنّ الانفصاليِّيْن الأوكرانيِّيْن قلَّلوا من مطالبهم.

وأمام الثمار السياسية الواضحة لوظائف الرئيس الجسدية، فقد قرّر فريق البيت الأبيض إصدار نشرة أسبوعية عن صحَّته. ولم تتجاوب وول ستريت إيجاباً مع ذلك فحسب، بل أظهرت استطلاعات الرأي تعافياً قوياً للحزب الجمهوري بأسره. وبحلول انتخابات الكونغرس النصفية، صارت التقارير الصحّيّة تصدر يومياً، وتمكّن مرشّحو الحزب الجمهوري من الاكتساح والسيطرة على مجلسي النوَّاب والشيوخ بفضل نشرة عشية الانتخابات حول انتظام العمل في الأمعاء الرئاسية.

ومنذ ذلك الحين فصاعداً صار الجمهور الأمريكي يتلقَّى سيلاً دائماً من المعلومات حول صحَّة الرئيس. وتضمَّنت التقارير الإخبارية المتعاقبة طَوَالَ اليوم تحديثات عن التأثيرات الجانبية لقُشَعْرِيْرَة خفيفة أو الفوائد المتحصّلة للدورة الدموية جرَّاء الغطس في حوض السباحة في البيت الأبيض. وأذكر جيِّداً أنني شاهدتُ الأخبار عشية عيد الميلاد بينما انشغلت زوجتي بإعداد العشاء، ولاحظت أنّ تفاصيل صحَّة الرئيس احتلَّت خمس أو ستّ من الفقرات الإخبارية الرئيسة.

علَّقت سوزان وهي تُعدُّ المائدة الاحتفالية: “مستوى السُّكَّر في الدم منخفض بعض الشيء إذن، أخبار طيِّبة لشوفان كويرز وبيبسي”.

“فعلاً؟ أَثمَّة صلة بين الأمرَيْن بحقّ الربّ؟”.

“أكثر بكثير ممَّا تدرك”. جلستْ بجانبي على الأريكة، وفي يدها مطحنة الفلفل، وأضافت: “سيتعيَّن علينا انتظار أحدث التحاليل لبوله. فقد تكون حاسمة”.

“عزيزتي، ما يحدث على الحدود الباكستانية ربَّما يكون حاسماً. غورباتشيف هدَّد بضربة وقائية ضدَّ معاقل الثوَّار. والولايات المتَّحدة لديها التزامات بحسب المعاهدات الموقَّعة، ونظريّاً فإنّ حرباً قد …”.

“صه …”، ربَّتت على كاحلي بمطحنة الفلفل: “سوف يبثّون الآن نتائج اختبار آيزنك لتحليل الشخصية، وقد حقَّق رجلنا علامات كاملة في معدَّل التجاوب العاطفي والقدرة على ربط الأمور ببعضها. وقد صُحِّحت البيانات وَفْقَاً لسنِّ الرجل، أيَّاً يكن معنى ذلك”.

“هذا يعني أنه عملياً منهار نفسياً”، كنتُ سأبدِّل القناة، أملاً بسماع بعض الأخبار حول الاضطرابات العالمية الفعلية، عندما ظهر نمط غريب أسفل الشاشة، وافترضتُ أنه تصميم ما مرتبط بعيد الميلاد، لا سيَّما وأنه بدا شبيهاً بأوراق الشجر المقدَّسة. وراح الخطُّ يتذبذب من شمال الشاشة إلى يمينها، على الإيقاعات الهادئة والمثيرة للحنين لأُغنيَّة “عيد الميلاد الأبيض”.

همستْ سوزان بوَجَل: “يا إلهي … هذا نبض روني. أَسمعتَ المذيع؟ هذا بثٌّ حَيٌّ لنبض قلب الرئيس”.

كانت تلك البداية فحسب. خلال الأسابيع التالية، وبفضل معجزة البثِّ الحديث، أصبحت شاشات الأُمَّة التلفزيونية لوح عرض لمستويات كلّ تفصيل من وظائف الرئيس البدنية والعقلية. صارت نبضات قلبه الشجاعة، وإن المتذبذبة، تُعرَض في شريط أسفل الشاشة، وفوقها يتوسَّع المذيعون في شرح تفاصيل نشاطه البدني اليومية، ونزهته الممتدَّة تسعة أمتار في حديقة الزهور، وعدد السعرات الحرارية في وجبته الغذائية المتواضعة، ونتائج آخر مسح دماغي أُجري له، ومؤشِّرات كُلْيَتِهِ وكَبِدِهِ ورِئَتَيْهِ. إضافة إلى ذلك، كان ثمَّة عرض تفصيلي لاختبارات الشخصية والذكاء، التي صُمِّمت جميعها لطمأنة الأمريكيِّيْن إلى أنّ الرجل المتربِّع على رأس العالم الحُرِّ، أكثر من لائق للمهامّ المرهقة التي تواجهه على منضدة المكتب البيضاوي.

حاولتُ أن أشرح لسوزان، أنّ الرئيس، لأسباب عملية، ليس أكثر من جثَّة مربوطة بالأسلاك الصوتية. كنتُ وزملائي في العيادة، نعي تماماً محنة الرجل الكهل خلال الخضوع لهذه الاختبارات المرهقة. غير أنّ طاقم عمل البيت الأبيض كان يدرك أنّ الشعب الأمريكي شبه منوَّم مغناطيسياً على إيقاع نبض قلب الرئيس. وبات الشريط يُعرَض أسفل الشاشة خلال عرض جميع البرامج، مرافقاً المسلسلات الكوميدية، ومباريات البيزبول وأفلام الحرب العالمية الثانية القديمة. بشكل غير مألوف، فإنّ نبضه المتسارع، يضاهي أحياناً تجاوب الجمهور العاطفي، مشيراً إلى أنّه شخصياً يشاهد الأفلام الحربية نفسها، بما في ذلك تلك التي ظهر فيها.

ولإكمال التماهي بين الرئيس والشاشة – وهو ما كان مستشاروه السياسيون يحلمون به منذ زمن طويل – فقد رتَّب طاقم البيت الأبيض لطبقات جديدة من المعلومات لعرضها على الشاشة. وسرعان ما بات ثلث شاشات الشعب الأمريكي مشغولاً بنتائج نبض القلب وضغط الدم ومخطَّط كهرباء الدماغ. وأُثير لفترة وجيزة بعض السجال حين غدا جلياً أنّ موجات الدلتا هي الغالبة، مؤكّدة اعتقاداً سائداً منذ زمن طويل بأنّ الرئيس نائم معظم اليوم. غير أنّ الجمهور شعر بإثارة كبيرة حين علم أنّ السيّد ريغان انتقل إلى نوم حركة العين السريعة؛ وقت أحلام الأُمَّة يتصادف مع وقت أحلام رئيسها.

أمَّا أحداث العالم الحقيقي، فإنها لم تتأثَّر بهذا السيل المتواصل من المعلومات الطبِّية، وواصلت طريقها المحفوف بالمخاطر. ابتعتُ كلَّ صحيفة وقعتْ عليها يداي، لكنّ صفحاتها اكتظَّت بالرسوم البيانية المتعلِّقة بصحَّة ريغان وبالمقالات التي تشرح دلالة وظائف إنزيمات الكبد لديه وأقلّ ارتفاع أو هبوط في نسبة كثافة بوله. وفي الصفحات الخلفية وجدتُ بضع إشارات وجيزة عن حرب أهلية في الجمهوريات الآسيوية في الاتِّحاد السوفييتي، ومحاولة انقلاب حليف للروس في باكستان، واجتياح الصين لنيبال، وحشد جنود الاحتياط في الناتو وحلف وارسو، وتعزيزات الأسطولَيْن الخامس والسابع الأمريكيَّيْن.

لكنّ تلك الأحداث المشؤومة، وشبح الحرب العالمية الثالثة، كانت عاثرة الحظّ، إذ تزامنت مع انخفاض بسيط في معدَّلات صحَّة الرئيس. ورد أوَّل التقارير في 20 يناير، حين هيمنت أخبار نزلة البرد البسيطة التي التقطها ريغان من أحد أحفاده، على جميع الأخبار الأخرى على الشاشات. خيَّم جيش من المراسلين وطواقم التصوير أمام البيت الأبيض، في حين ظهرت وحدة من الأخصائيِّيْن من كبريات المؤسَّسات البحثية بالتناوب على جميع الشاشات، مفسِّرة البيانات الطبِّية المتدفِّقة.

مثل مائة مليون أمريكي، أمضت سوزان الأسبوع التالي جالسة قُبَالَة شاشة التلفزيون، وعيناها تتابعان تقارير نبض قلب الرئيس.

أكّدتُ لها حين عدتُ من العيادة في 27 يناير: “ما زالت نزلة برد .. ما آخر أخبار باكستان؟ ثمَّة شائعة عن أنّ السوفييت أنزلوا قوَّات خاصَّة في كراتشي. قوَّات دلتا تتحرَّك من خليج سوبيك …”.

“ليس الآن!”، أشاحت بيدها، رافعة الصوت حين بدأ المذيع بنشرة جديدة.

“إليكم آخر الأخبار المتعلِّقة بالتقرير الذي أذعناه قبل دقيقتَيْن. أخبار طيِّبة من الصورة المقطعية لقلب الرئيس. ليس هناك تغييرات غير طبيعيّة في حجم البُطَيْنَيْن وشكلهما في قلب الرئيس. مطر خفيف قد يسقط الليلة على منطقة واشنطن العاصمة، وخيالة كتيبة الجوِّ السادسة تبادلوا إطلاق النار مع دوريات السوفييت الحدودية شمال كابل. سنعود إليكم بعد الفاصل بتقرير عن دلالة ارتفاع الفصِّ الصُّدْغِي الأيسر …”.

“بحقِّ الربّ، ليس من أهمِّيَّة لذلك”، أخذتُ جهاز التحكّم عن بُعد من يد سوزان القابضة بقوَّة عليه، وبدأتُ أبحث بين القنوات: “ماذا بشأن الأسطول الروسي في البلطيق؟ الكرملين يضغط على قوَّات الناتو في الشمال. على الولايات المتَّحدة أن تردّ …”.

بمحض الحظّ، وقعتُ على مذيع في محطَّة إخبارية كبرى، يختم نشرة أخبار. كان ينظر بثقة إلى الجمهور، وشريكته في تقديم النشرة تبتسم بترقُّب، وقال: “ابتداء من الساعة الخامسة وخمس دقائق بالتوقيت الشرقي يمكننا القول إنّ ضغط قلب الرئيس جيِّد. كلّ الوظائف الحركيّة والإدراكية طبيعيّة لرجل بعُمُر الرئيس. نكرِّر الوظائف الحركيّة والإدراكية طبيعيّة. الآن، ثمَّة خبر عاجل وصلنا للتوِّ. عند الثانية وخمس وثلاثين دقيقة بالتوقيت المحلّيّ أكمل الرئيس ريغان دورة حركة أمعاء جيِّدة”. التفت المذيع إلى شريكته في النشرة، وأضاف: “باربرا، أعتقد أنّ لديكَ أخباراً طيِّبة مماثلة عن نانسي؟”.

تدخَّلت المذيعة برشاقة: “شكراً دان، أجل، قبل ساعة واحدة فحسب، عند الثالثة وخمس وثلاثين دقيقة بالتوقيت المحلّيّ، أكملت نانسي حركة أمعائها الخاصَّة، وهي الثانية لليوم، وهذا كلُّه يحدث في العائلة الأولى”. نظرتْ إلى قُصاصة ورق وُضِعتْ جانباً على المنضدة أمامها، وأضافتْ: “حركة السير في جادَّة بنسلفانيا توقَّفتْ من جديد، في حين أنّ طائرات الأف 16 من الأسطول السادس قد أسقطت سبع طائرات ميغ 29 فوق مضيق بيرينغ. ضغط دم الرئيس مائة فوق الستِّين. وتظهر الصور انتفاخاً بسيطاً في اليد اليسرى …”.

كرَّرت سوزان، ضامَّة يَدَيْهَا: “انتفاخ في اليد اليسرى … لا ريب في أنه أمر جَلَل؟”.

نقرتُ على مبدِّل القنوات: “يمكن أن يكون كذلك. ربَّما يفكِّر باضطراره إلى الضغط على الزرِّ النووي. أو …”.

خطر لي احتمال آخر مخيف أكثر من ذلك. غصت في خليط النشرات الإخبارية المتنافسة، أملاً بأن أُشغل تفكير سوزان بينما أحدِّق بسماء واشنطن المظلمة. أسطول السوفييت يقوم بدوريات على بُعد ستُّمائة كيلومتر من الساحل الشرقي للولايات الامريكية المتَّحدة. سرعان ما سترتفع غيوم الفطر فوق البنتاغون.

“… سُجِّل اختلال وظيفي بسيط في الغُدَّة النخامية، وأعرب أطبَّاء الرئيس عن مستوى متواضع من القلق. أُكرِّر، مستوى متواضع من القلق. الرئيس ترأَّس مجلس الأمن القومي قبل نصف ساعة. مقار القوَّات الجوِّية في أوماها نبراسكا، تبلغ عن هجوم لقاذفات بي 52. الآن، وصلتْني للتوِّ نشرة من وحدة الأورام في البيت الأبيض. أُخِذَتْ خزعة من ورم جِلْدي حميد عند الرابعة وخمس عَشْرَة دقيقة بتوقيت واشنطن …”.

“… أعرب أطبَّاء الرئيس مجدَّداً عن قلقهم جرَّاء الشرايين المتكلِّسة والصمَّامات المتصلِّبة في قلب الرئيس. يُتوقَّع أن يتجاوز الإعصار كلارا بورتريكو، والرئيس فعَّل سلطات الطوارئ الحربية. بعد الفاصل سنكون مع مزيد من تحليلات الخبراء حول فقدان الذاكرة الرجعي عند السيّد ريغان. تذكَّروا أنّ هذا العارض قد يشير إلى متزامنة كورساكوف …”.

“نوبات حركيّة، إحساس واهن بالزمن، تغيُّرات في اللون ودوار. السيّد ريغان يسجّل أيضاً وعياً متزايداً بالروائح الضارَّة. آخر الأخبار الأخرى، العواصف الثلجية تغطِّي وسط غرب البلاد، وحالة حرب الآن بين الولايات المتَّحدة والاتِّحاد السوفييتي. ابقوا معنا لمعرفة آخر الأخبار حول التمثيل الغذائي في دماغ الرئيس …”.

قلتُ لسوزان، واضعاً ذراعي حول كتفَيْها: “نحن في حالة حرب”. لكنها أخذت تشير إلى ارتفاع مؤشِّر القلب على الشاشة. هل عانى الرئيس من سكتة دماغية، وأطلق هجوماً نووياً شاملاً على الروس؟ هل النشرات الطبِّية المتواصلة هي تغطية ذكية تهدف إلى حماية الجمهور التلفزيوني المتقلِّب من عواقب ردِّ فعل يائس على إعلان حالة طوارئ قومية؟ سوف يستلزم الصواريخ الروسية دقائق فحسب للوصول إلى واشنطن، وأخذتُ أُحملق في سماء الشتاء الواضحة. مُحتضناً سوزان، أصغيتُ إلى جلبة نشرات الأخبار الطبِّية حتَّى سمعتُ، بعد نحو أربع دقائق: “… أطبَّاء الرئيس يبلغون عن اتِّساع حدقة العين، وعن رعاش متشنِّج، لكنّ أنظمة الدعم العصبية الكيماوية تعمل بصورة سليمة. التمثيل الغذائي في دماغ الرئيس يُظهِر إنتاجاً متزايداً للغلوكوز. من المتوقَّع هطول ثلوج متفرِّقة خلال الليل، وأمريكا والاتِّحاد السوفييتي يتَّفقان على وقف الأعمال العدائية بينهما. بعد الفاصل، آخر الخبراء يعلِّق على أزمة الغازات الرئاسية، ولماذا يحتاج الجفن الأيسر عند نانسي إلى تشذيب …”.

أطفأتُ التلفزيون، وجلستُ في الصمت الغريب. كانت طائرة مروحية صغيرة تعبر السماء الرمادية فوق واشنطن. وقلتُ لسوزان على مضض: “بالمناسبة، لقد انتهتْ للتوِّ الحرب العالمية الثالثة”.

بالطبع، لم يكن لدى سوزان أدنى فكرة أنّ الحرب بدأت، وهو أمر شائع بين الجمهور العريض، مثلما أدركتُ خلال الأسابيع القليلة التالية. معظم الناس لديهم ذكرى غامضة فحسب عن الاضطرابات في الشرق الأوسط. الأخبار عن سقوط قنابل نووية في الجبال المهجورة في ألاسكا وشرقي سيبيريا ضاعت في خضمِّ التقارير الطبِّية عن تعافي ريغان من نزلة البرد.

في الأسبوع الثاني من فبراير 1995، رأيتُهُ على الشاشة يترأَّس احتفال الفيلق الأمريكي في حديقة البيت الأبيض. ارتسمت على وجهه العاجي المسنِّ الابتسامة الودودة نفسها، وغاب التركيز من عَيْنَيْه بينما وقف يسنده اثنان من مساعديه، والسيّدة الأولى الحريصة تقف دوماً بطريقتها الفولاذية بجواره. في مكان ما تحت المعطف الأسود السميك، كانت أجهزة الاستشعار تبثُّ حركة النبض والتنفُّس وضغط الدم التي نشاهدها على شاشاتنا. خمَّنتُ أنّ الرئيس، هو الآخر، نسي أنه أطلق أخيراً الحرب العالمية الثالثة. في نهاية المطاف، لم يُقتَل أحد، وفي عقل الجمهور، فالضحية الوحيدة المحتملة لتلك الساعات الخطرة هو السيّد ريغان نفسه وهو يكافح للنجاة من نزلة البرد.

في الأثناء، بات العالم مكاناً أكثر أمناً. فتبادُل القصف النووي الوجيز أوصل رسالته إلى القوى المتحاربة حول الكوكب. الحركات الانفصالية في الاتِّحاد السوفييتي حلَّت نفسها، في حين انسحبت الجيوش الغازية في أماكن أخرى إلى ما وراء حدودها. وكدتُ أُصدِّق أنّ الحرب العالمية الثالثة كانت من عمل الكرملين والبيت الأبيض كأداة لصنع السلام، وأنّ نزلة برد ريغان كانت فخَّاً تسريبياً وقعت فيه شبكات التلفزة والصحف دون انتباه.

في تحية إلى تعافي الرئيس، ظلَّت وظائف جسده الحيوية تُعرَض على الشاشات. وبينما حيَّا جنود الفيلق الأمريكي، شعرتُ بنبض الجمهور الجماعي يخفق أسرع حينما تجاوب قلب الممثّل المسنِّ مع المنظر المؤثِّر لأولئك الجنود في العرض العسكري.

ثمَّ، بين حملة ميدالية الشرف، لاحظتُ شابّاً أشعث في بِزَّة لا تُناسب جسده، وغير متزامن مع رفاقه الأكبر سنَّاً. اندفع عبر الكتائب المتقدِّمة، وأخرج مسدَّساً من سترته. سادت جلبة وارتباك بين حرَّاس الرئيس على المنصَّة. انحرفت الكاميرات لكي تلتقط الشابّ وهو يجري مسرعاً نحو الرئيس. سُمعَت طلقات نارية فوق جلبة الفرقة الموسيقية. في خضمِّ ذعر الجنود بالزِّيِّ العسكري، بدا أنّ الرئيس سقط بين يَدَي السيّدة الأولى، وحُمل بعيداً على وجه السرعة.

باحثاً عن المؤشِّرات أسفل الشاشة، رأيتُ فوراً أنّ ضغط دم الرئيس انخفض إلى الصفر. غدا الخطُّ المتذبذب للقلب مستوياً بصورة أُفقية ثابتة، وكلّ وظائف التنفُّس توقَّفت. بعدها بعشر دقائق فحسب، وبينما بُثَّت الأخبار عن محاولة اغتيال فاشلة، استعادت المؤشِّرات عملها الواثق.

هل تُوفِّي الرئيس، ربَّما لثانية؟ هل، بالمعنى الدقيق، عاش أساساً خلال فترته الرئاسية الثالثة؟ هل سيتولَّى طيف متحرِّك ما منه، وقد أُعيد بناؤه من المؤشِّرات الطبِّية التي ما زالت تملأ الشاشات، فترات رئاسية أخرى، ويُطلق حرباً عالمية رابعة وخامسة، والتي ستنفد صلاحية تاريخها السرّيّ ضمن فجوات جداول العرض التلفزيونية، وتضيع إلى الأبد في تحاليل البول، أو في الخزعة العظيمة الأخيرة في السماء؟

1988

——————-

[1] بوديكا: كانت ملكة على قبيلة إيكيني السلتية البريطانية، وقادت انتفاضة ضدَّ قوَّات الإمبراطورية الرومانية في عام 60 أو 61 ميلادي، وتُوفِّيت بعد فترة قصيرة من فشل ثورتها. وهي تعتبر بطلة شعبية في بريطانيا.

—————–

من الأعمال القصصية الكاملة للكاتب الأميركي بالارد الصادرة أخيراً في أربعة مجلدات عن منشورات المتوسط في ميلانو.

*****

خاص بأوكسجين


جيمس غراهام بالارد (1930 - 2009) روائي وقاص انجليزي استكشفت أعماله أعماق النفس البشرية في خضم التكنولوجيا وسطوة وسائل الإعلام، متخذاً منها سواء في القصة القصيرة أو الرواية معبراً نحو عوالم مترامية يسودها الخيال العلمي والفنتازيا والحب والجنس وقراءة المستقبل بالاتكاء على الواقع والحاضر مثيراً جدلاً واسعاً كما في مجموعته القصصية "أريد أن أمارس الجنس مع رونالد ريغان"" ورواية ""كراش"" (تحطم) التي قدمها ستيفن غروننبيرغ في فيلم حمل العنوان نفسه، وغيرها من أعمال كثيرة مترامية."