البحث عن الفايروس المفقود 1
العدد 253 | 29 آذار 2020
زياد عبدالله


يوم اضطراري

الرطوبة عالية، والريح ثقيلة، وثقلها لا ينفي عنها صفة الريح أي قدرتها على تحريك أوراق الأشجار على الأقل، لكن بتثاقل، وعدا عن ذلك فالأرض مبللة، وثمة تجمعات مياه عند حواف الأرصفة، جراء مطر سخيف هطل متفرقاً في النهار. تتلخص مهمتي المسائية بالتسوق والعودة إلى البيت.

في “كارفور” المعقّمات والكمّامات في كل مكان، ثمة علبة تنتظرك لتعقيم عربة التسوق، وأخرى ليديك، وفي جيبي بخاخ سوبر معقم. ما أن بدأت التسوق حتى صار أنفي يحكني بلا توقف، لا بل كل شيء في وجهي صار يحكّني، بما في ذلك وجهي نفسه!

لو قدّر لي أن أتولى النشرة الجوية لقلت إن ضرطة ميتافيزيقية تهيمن على الأجواء، سرعتها معتدلة تستطيع تحريك أوراق الأشجار، ولها أن تأتي بعد زخات سخيفة من أمطار متفرقة، وأشك بأن أي فيروس يحترم نفسه سيفكر بالعيش في هكذا جو، هذا والله أعلم!

هيمن هذا الجو على يوم واحد، وهو اليوم الوحيد الذي خرجت فيه منذ خمسة أيام تفرغتُ فيها لحك وجهي.

 

مكر الطبيعة

الكورونا تدخّل مفاجئ للطبيعة في التاريخ، وليبدو التاريخي مكبلاً بالطبيعة، وقد تحوّل فجأة إلى شأنٍ يومي، يمكن لما لا يُرى أن يربك الصروح والشواهق، وهو ليس زلزالاً ولا إعصاراً ولا بركاناً، تقتصر نتائجه الكارثية على محيط بشري وجغرافي محدد، وهكذا يمكن إخراج الاشتراكية من قمقمها لتنقض على الرأسمالية، وبالتالي فإننا في مرحلة قرع الطبول والآتي بات صبر ساعة، ويمكن تزجية الوقت بتدخين سيجارة فإذا بالأمر ينقضي، وتطفو أو تعود من غائب علمه منظومة ترث ما ينهار.. اشتراكية!

 أعتقد أن قيماً اشتراكية طفت على السطح وأظهرت مدى أهميتها جراء الحاصل حالياً، ومبادرة كوبا – على سبيل المثال –  اتجاه إيطاليا أحييت خطاباً لكاسترو ونحو ذلك، إلا أنها قيم عاجزة حالياً عن تكوين منظومة، باستثناء النموذج الصيني وخلطته العجيبة بـاعتماده “اقتصاد السوق الاشتراكي” و”رأسمالية الدولة”، وتبني الحزب الشيوعي الصيني منذ أواخر سبعينات القرن الماضي أن تطور القوى المنتجة هو محرك التاريخ وليس الصراع الطبقي.

 الأداء الصيني في مجابهة الوباء واستعادة المبادرة هو المفصلي بما سيمسي عليه العالم، أمام التخبط الأميركي والترامبية (تخطي أميركا الصين بعدد الإصابات)، وبهذا ضربة موجعة للحلم/النموذج الأميركي، ناهيك عن العجز وهو يحل في أعظم قوة في العالم، وسوء الإدارة، وغير ذلك مما قد يلحق بأميركا بينما الصين تتعافى مما لم يتوقف ترامب عن تسميته بالفايروس الصيني.. في هذه العقدة يمكن الاعتقاد بمنعطف ما منطلقه اقتصادي، لا بل رأسمالي تناقسي بحت، وللطبيعة أن تقرر ذلك، وقد أمست القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية تحت رحمتها! والأحداث متسارعة فاليومي تاريخي بامتياز، وما نخلص إليه اليوم قد يتغير غداً، وليبدو التوصل إلى دواء أو لقاح منافسة المنافسات!

إنه مكر الطبيعة حين لا يمكر التاريخ.

 

جهاد الكورونا

في زمن الكورونا يوضع في سياق التعقيم الكحولي الفعّال بيت ديك الجن: كأن في مشيتها في جسم شاربها/ تمشّي الصبح في أحشاءِ ظلماءِ.  أما: السيف أصدق إنباء من الكتب/ في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب، فأشبه بحرق علم الكورونا وإعلان الجهاد على هذا الوباء اللعين.

 

معقّمات اليدين والمخ

أشاهد صباحاً خبيرة التجميل في برنامج “صباح الخير يا عرب” على “إم بي سي” وهي تشرح إعداد كريم لحماية اليدين من الجفاف والتشققات جراء الاستخدام المفرط للمعقمات في هذه الأيام، ولتكون التركيبة من زيت الزيتون ونحو ذلك من مواد طبيعية، وهي كفيلة بحماية اليدين والأظافير أيضاً، أشبه بتركيبة مقال يوفال نوح هاراري المنشورة في الفايننشال تايمز “العالم ما بعد فايروس كورونا” (20 مارس/ آذار 2020)، ولتتيح لي مشاهدتي خبيرة التجميل استعادة مقاربة يوفال لما توصلت إليه الصين من سيطرة على مواطنيها جراء مكافحتها وباء الكورونا، إذ “تمت مراقبة هواتف المواطنين، واستخدام ملايين كاميرات التعرف على الوجه، وإجبار الأشخاص على فحص درجة حراراتهم وحالتهم الطبية والتبليغ عنها (..) لا بل تتبع تحركاتهم أيضاً والتعرف على كل من يتصل بهم، وتحذيرهم عبر حزمة من التطبيقات من التقرب إلى المرضى المصابين..”

 وليطرح السيد يوفال السؤال الأهم والذي يمكن أن يختزل كل مقاله الممتد لأكثر من ألفي كلمة: هل علينا الاختيار بين صحتنا وخصوصيتنا؟ وهو سؤال مشروع ومهم، يمكن أن يكون في بوست على فايسبوك بدل تكبد عناء مطولته. هل لنا أن نقبل أن تُعرف حراراتنا ووضعنا الصحي بمجرد ملامسة إصبعنا شاشة الهاتف النقّال، ما سيؤدي لاحقاً إلى معرفة ردود أفعالنا عند مشاهدتنا قناة إخبارية أو خطاباً لزعيم ونحو ذلك، وليتوصل في الربع الأخير من المقال إلى حزمة من الوصايا الموجهة لعموم البلدان بالتعاون والتشاركية وتخطي المعوقات والخلافات سواء لمكافحة الوباء أو فيما يتيع ذلك، بما يشبه إعداد مستحضرٍ طبيعي يقينا تشققات اليدين، وهو يعتقد بأنه أعطانا لقاحاً أو دواء للكورونا وما يلي الكورونا، هو الذي يخبرنا كيف تمكن رئيس دولته نتنياهو بفرض حالة الطوارئ حين جوبه برفض لجنة برلمانية لقراره باستخدام الكاميرات الحرارية المخصصة لـ “الإرهابين” في تعقب مرضى الكورونا، ويحدثنا عن قانون الطوارئ الاسرائيلي الذي فرض عام 1948 أثناء “حرب الاستقلال” ولم يرفع حتى عام 2011! وبينما تنتهي خبيرة التجميل من فقرتها أتساءل وما الذي يمنع السيد يوفال من استبدال حديثه عن الصين والكي جي بي وأجهزة التحكم، والتعاضد والتشارك الإنساني، بالحديث عن الموساد والشاباك ومدى احترامهما للخصوصيات، عن جدار الفصل العنصري، والكاميرات الحرارية نفسها التي تحترم الخصوصيات، ومئات الكاميرات المزروعة في الضفة، أما أنها “حرب الاستقلال” وقد هجَّرت شعباً، وكل شيء مباح في سبيل هذا الاستقلال بما في ذلك وعظنا ودعوتنا إلى التعاضد والتشارك الإنساني!

يا أيها “البست سيلري” أرجوك ألا تحدثنا عن مستحضرات التجميل بوصفها علاجاً للكورونا والإنسانية.

 

سورية

السوريون على أهبة التصدي للكورونا: المهجرون واللاجئون والطوابير والفقراء والخيام والكهرباء والمخابرات والمؤامرات والمرتزقة والمجاهدون والمناضلون والشهداء والأبرياء والمذنبون والثوار والإرهابيون وعزيمة الأمة واليتامى والمساكين وعابرو السبيل والعمال والفلاحون والموظفون وصغار الكسبة والمياوميون والكتائب والفصائل والألوية والفرق والجيوش والقيادات واللجان والفروع والوحدات والنقابات وكتّاب التقارير والبطاقات الذكية ومسّاحو الأراضي المحروقة وتجار الحروب وخبراء الردم والمنفيون والمنظّرون والقوميون والإسلاميون والطائفيون والعلمانيون والموالون والمعارضون وملازمو البيوت المتبقية والمتهدمة والمحافظات المحيّدة وتلك المدمرة والضواحي المتوسدة الأرض والمشافي الممحية والمترنحة والمتآكلة والطواقم الطبية المفجوعة والمنافس الخانقة والمنافذ الحدوية والتهريب والفهلوية والفساد والمساجد والكنائس والأديرة والمزارات والأضرحة والله أكبر والأجراس والتآخي الطائفي الكاذب والصادق وعَرق الريّان وعِرق السوس ومزجهما وفصلهما ثم إراقتهما كما الدم السوري.. السوريون على أهبة التصدي للكورونا، اللهم جنبّهم ذلك، وقد هتفوا وتضرعوا “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” وما من مجيب، فأجبهم هذه المرة!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.