الآلة
العدد 222 | 15 تشرين الثاني 2017
كلود شنيرب


عديدة هي المناسبات التي ضغط فيها على الزرّ؛ جرحى، موتى، مرضى يُحتضرون، خيول مبقورة البطن، صبية يختصمون تفّاحة نصف فاسدة. بواسطة بآلة التّصوير كان دائماً في وسعه أن يشرح المعضلات على نحو مختلف، أو يمدّد في الزّمن عمر مشهد ما.

  على الحدود الفرنسيّة، مثلا، أين اضطرّ الإسبان إلى تسليم أسلحتهم وعتادهم. كان يلتقط الصّورة تلو الصّورة وهم يجبَرون على تكديسها هناك. أغلبهم كان يائسا من إمكانيّة عبور الحدود يوما ما.

 وكانت الطّائرات تُحلّق فوق رؤوسهم كنسور الجيف.

حينها لم ينس أن يتّخذ صورة لأحدهم وقد ارتسم الرعب على وجهه.

لمّا عاد إلى فرنسا توجّه أوّلا إلى معسكر في (أرجلاس) غصّ باللاّجئين.

هناك سيسعك دائما أن تفوز بصورة مذهلة:

نيران المطابخ الفقيرة، الدّخان الذي يتصاعد ببطء كلّ مساء، أو في أسوإ الأحوال، أن تظفر في مربّع عدستك بعجوز يرتعش..

حين صار على مقربة من الشّاطىء استوقفه أحد الإسبان قائلاً:

– هذا ليس جميلاً.. و أشار إلى آلة التّصوير بيده، ليوحي له بالتقاط بعض الصّور. بعض الفظائع.

فعلا لم يكن المنظر جميلاً أبداً؛ نفايات عفنة، جثث آدميّة، وجريح ينتهي من لفّ ضمّادة على فخذه الأيمن.

طلب من الجريح أن يفكّ الضمّادة لأجل الصّورة ففعل. الجرح غائر وليس جميلا أيضا. حدّث نفسه بأنّ الإصابة ربّما التهبت وأنّ الّلحم في طريقه ليتآكل.

ثمّ ابتعد عن السّاحل.

وسط حشد من النّاس تجمّعوا بمحاذاة نيران المطبخ، دنا منه طفل صغير. كان قد فقد عائلته في الحرب ولم يعد يحتمل البقاء في المعسكر.

– باريس؟ (قال الطّفل من دون مقدّمات). ثمّ عرض خدماته. قال إنه يتقن فعل كلّ شيء.

– مثل ماذا؟

– الغسيل، الصّحون، المطبخ…

– و ماذا أيضاً؟

– بإمكاني أن أصلح السيّارة.

»كذّاب صغير«  فكّر الرّجل

– حسنا، وبعد أن تنجز كلّ هذا ما الذي تستطيع القيام به؟ (سأله بصوت خافت وبنبرة خبيثة.)

خجل الطّفل واحمرّ خدّاه وتراجع إلى الوراء كما ليهرب من الموقف، ولكنّ الرّجل وجد الوقت الكافي ليوثّق خلف عدسته ذاك الوجه الذي تعكّر فجأة.

  في بيته استيقظ. غيّر ملابسه ثمّ ألقى بالآلة داخل خزانة، فوق كومة من الملابس المعدّة للغسيل. لم يُفرغ محتواها لأنّها لم تكن محشوّة يوماً.

 وفي قلب شارع (مون مارتر) يدخل الرّجل إلى شقّة. تستقبله معينة السيّدة صاحبة المضافة. تعرفه جيّدا. ومن دون أن تقول كلمة واحدة، تقوده إلى غرفة مظلمة. يتعرّى تماما ثمّ عبر نافذة صغيرة في مستوى الرّأس، زجاجها غير مطليّ بأيّ لون يظلّ طويلا يراقب داخل الغرفة المجاورة المضيئة، رجلا وامرأة يلهوان..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة مترجمة عن مجموعة : Aux bords de la vie (1999)

*****

خاص بأوكسجين


كاتب فرنسيّ (1914 - 2007)،أحد مؤسّسي مجلّة " الفصل الجديد"" ،نشر العديد من المقالات النّقديّة الأدبيّة في الصّحف الفرنسيّة و غيرها، وتطرّق في دراسات عديدة له للسّينما والمسرح. شارك في الحرب العالميّة الثّانية .سجن وهرب مرّات عديدة وأُعيد.قلّدوه وسام الحرب والنّجمة البرونزيّة وغيرها من أوسمة."

مساهمات أخرى للكاتب/ة: