اعترافات جبان
العدد 166 | 10 شباط 2015
تشارلز بوكوفسكي/ ترجمة: أماني لازار


يا إلهي، فكّرت وهي مضطجعة على السرير عارية تعيد قراءة كتاب آلدينجتون “صورة العبقري”، “لكنه… محتال!” هو ليس ب  د.ه. لورانس، لكن زوجها-هنري-بكرشه السمين وكل ذلك الشعر الذي لم يسرحه قط يقف بسرواله القصير هناك، عارياً قبالة النافذة يعوي كبدوي، وقد أخبرها بأنه يتحول إلى ضفدع وأنه أراد شراء تمثال بوذا وأراد أن يكون عجوزاً ليغرق في البحر، وأنه عازم على إطلاق لحيته وأنه شعر كما لو أنه يتحول إلى امرأة.

 وكان هنري مسكيناً، مسكيناً وتافهاً وبائساً ومريضاً، ورغب بالانضمام إلى رابطة ماهلر. لفمه رائحة كريهة، كان أبوه مخبولاً وأمه تحتضر إثر إصابتها بالسرطان.

وعلاوةً على ذلك كله، كان الطقس حاراً كالجحيم.

” لقد توصلت إلى نظام جديد،” قال. “كل ما أحتاجه هو أربعة أو خمسة آلاف دولار.”

“إنه موضوع استثمار،” قال.  “يمكننا السفر من سكة إلى أخرى في مقطورة.”

 أرادت أن تقول شيئاً محبطاً مثل “لا نملك أربعة أو خمسة آلاف دولار”، لكنها لم تتلفظ بذلك. لا شيء خرج عنها: كانت كل الأبواب مغلقة وجميع النوافذ مسدلة، وكان ذلك وسط الصحراء – ما من نسور حتى -وكانوا على وشك رمي القنبلة. كان عليها أن تبقى في تكساس، أن تبقى مع بابا- هذا الرجل أحمق، مُنفِّر، جبان – لا علاقة له بالمنتجين. يتوارى خلف السمفونيات والخيالات الشعرية، روحه ضعيفة ومنطفئة.

“هل ستأخذني إلى المتحف؟” سألت.

“لماذا؟”

 “يقام هناك معرض فني.”

“أعلم.”

 “حسناً، ألا ترغب برؤية فان كوخ؟”

“ليذهب فان كوخ إلى الجحيم! ما الذي يعنيه فان كوخ لي؟”

 أوصدت الأبواب ثانيةً ولم تستطع التفكير بجواب.

“أنا لا أحب المتاحف،” تابع. “ولا أحب زوار المتاحف.”

 كانت المروحة تدور، إلا أنها شقة صغيرة احتجزت الحرارة كما لو في ركوة.

“في الواقع،” قال، وهو يخلع قميصه واقفاً بسرواله القصير فقط، ” لا أحب شتى صنوف البشر.”

كانت كمية الشعر على صدره مذهلة.

“في الواقع،” واصل، وهو ينزل سرواله مرتكزاً على إحدى قدميه، “سوف أؤلف كتاباً ذات يوم وأسميه اعترافات جبان.”

رن جرس الباب رنيناً كما الاغتصاب، كما تهتك اللحم الحي.

“يا يسوع المسيح!” قال كمن يؤخذ على حين غِرَّة.

 قفزت من على السرير، وبدت باهتة وشديدة البياض. كموزة مغطاة بالسُّكَّر. سقط الدينجتون و د.ه. لورانس وتاوس على الأرض.

هرعت إلى الخزانة وراحت تحشر نفسها في مستلزمات الملابس النسائية.

“الملابس غير هامة،” قال.

 “ألا تنوي أن تفتح؟”

” لا، لمَ يتوجب عليَّ ذلك؟”

رنَّ جرس الباب مجدداً. دخل صوت الجرس الغرفة وبحث عنهما، تسلق صاعداً جلدهما، لكمهما بعيون زاحفة.

ومن ثم حلّ الصمت.

 ومع صوتهما استدارت القدم، مضت تقود وحشاً ما، تنزله من على بئر السلم، واحد اثنان ثلاثة، 1.2.3 ومن ثم رحل.

“عجباً،” قال. ولم يأتِ بحركة، “ما كان ذلك؟”

 “لا أعلم،” قالت، وهي تنحني وتخرج تنورتها التحتية من رأسها.

” أخيراً! ” صرخت. “أخيراً!” رافعة ذراعيها إلى الأعلى كالمجسَّات.

 انتهت من خلع الثوب من رأسها ببعض النفور.

“لماذا تلبس النساء هذا الهراء؟” سأل بصوت مرتفع.

 لم تشعر بأن هناك ضرورة للرد وبحثت ثم سحبت لورانس من تحت السرير. ودخلت السرير مع لورنزو وجلس زوجها على الأريكة.

  “لقد بنوا له ضريحاً صغيراً،” قال.

 “من؟” سألت مشاكسة.

“لورانس.”

“اوه.”

 “هناك صورة له في ذلك الكتاب.”

” نعم لقد رأيتها.”

 “هل رأيت مقبرة للكلاب؟ “

“ماذا؟”

“مقبرة كلاب.”

” حسناً، ماذا عنها؟”

“تملؤها الزهور دوماً، عند كل كلب هناك زهور يانعة، مشكَّلة كلها في باقات صغيرة أنيقة على كل قبر. هذا كافٍ لجعلك تبكين.”

 وجدت المكان الذي وصلت إليه في الكتاب ثانية، كانت مثل شخص يبحث عن عزلة وسط بحيرة: إذن فالشهور المرة تواصلت بشكل بائس، مترافقة مع شعور لورنزو المأساوي بالضياع، هذا-

“أتمنى لو أني تعلمت الباليه،” قال. ” أكاد أتهاوى كلياً لكن هذا يعود إلى روحي الذاوية. أنا رشيق حقاً، جاهز للتشقلب على فرشة قفز من نوع ما، كان عليَّ أن أكون ضفدعاً، على الأقل. سترين. سأتحول في يوم ما إلى ضفدع.”

  تموجت بحيرتها بنسيم مغضب: “حسناً، بحق السماء، تعلم الباليه! اذهب ليلاً! تخلص من كرشك! اقفز هنا وهناك! كن ضفدعاً!”

” هل تقصدين بعد العمل؟” سأل بنبرة حزينة.

 “يا الله،” قالت، أنت تريد كل شيء دون مقابل.” نهضت وذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب.

 هي لا تفهم، فكّر، وهو جالس على الكنبة عارياً، لا تفهم بأني أمزح. إنها مغرقة في الجدية. كل ما أقوله لا بد أن يحمل معنى مأساوياً أو حقيقياً، أو رؤيا أو ما شابه. لقد تحملت كل ذلك!

 وقع نظره على قصاصة ورقية على الطاولة الجانبية مخربش عليها بقلم رصاص، بخط يدها، فتناولها:

 زوجي شاعر صدرت له كتب إلى جانب سارتر ولوركا، هو يكتب عن الجنون ونيتشه ولورنس، لكن ما الذي كتبه عني؟

 هي تقرأ الكتب الهزلية

 والترهات الفارغة

 وتصنع قبعات صغيرة

 وتذهب إلى القداس في الثامنة صباحاً

 أنا أيضاً شاعرة وفنانة، يقول بعض النقاد 

 المتبصرين، لكن زوجي كتب عني:

 هي تقرأ الهزليات…

 سمع صوت شطف المرحاض، ثم خرجت بعد لحظة.

“أود أن أكون مهرجاً في السيرك،” قال في استقبالها.

عادت إلى السرير مع كتابها.

” ألا تودين أن تكوني مهرجة مؤثرة تتخبط بوجهها المصبوغ بالألوان؟” سألها.

لم تجب، التقط استمارة السباق.

باور 114 ب.ج.4، مع القنبلة الذرية-

بومايا، مع بومبي

بريدر، اسطبل بروكميدي.

1956 12 2 4 1 $12،950

 18-Jam I I/16 1:45 1/5ft. 3 122 2تموز

1/2 3 2 2 سا guerinE’Alw86

 “أنا ذاهب إلى كالينتي الأحد القادم،” قال.

 “حسناً، سأدعو شارلوت للمجيء. بإمكان آلان ايصالها بالسيارة.”

 “هل تصدقين أن الكاهن قد أغواها حقاً في ذلك الفيلم كما ادعت؟”

 قلبت صفحة كتابها.

 “عليكِ اللعنة، أجبيني!” وأخيراً صرخ غاضباً.  

 “بماذا أجيبك؟”

” ألا تظنين أنها عاهرة وتختلق كل ذلك؟ ألا تظنين أننا جميعاً عاهرات؟ ما الذي نحاول فعله بقراءة كل تلك الكتب؟ كتابة وإعادة كتابة كل تلك القصائد، والعمل في زنزانة ما دون مقابل لأننا لسنا مهتمين بالمال حقيقةً؟”

 وضعت الكتاب ونظرت إليه من فوق كتفها. “حسناً،” قالت بصوت منخفض، “هل ترغب بالتخلي عن كل شيء؟”

” التخلي عن ماذا؟ نحن لا نملك أي شيء! أو هل تقصدين سمفونية بيتهوفن الخامسة أو موسيقى الماء لهاندل؟ أو أنك تعنين موسيقى السول؟”

 “لنكف عن الجدل. رجاءً. أنا لست راغبة بالمجادلة.”

 “حسناً، أريد معرفة ما نحاول فعله!”

 رن جرس الباب كما لو أن كل أجراس القدر تكتسح الغرفة.

“ششش،” قال، “ششش! اهدئي!”

 رن جرس الباب ثانية، كما لو أنه يقول أعرف أنكم في الداخل، أعرف أنكم في الداخل.

 “هم يعلمون أنَّا هنا،” همست.

” أشعر بأنه هو،” قال.

 “ماذا؟”

” لا يهم. ابقي هادئة فقط. ربما يمضي.”

  “أليس رائعاً أن يكون لديك كل هؤلاء الأصدقاء؟” تسلّحت بالمزاح.

“لا. ليس لدينا أصدقاء. أقول لك، هذا شيء آخر!”

 رن جرس الباب مجدداً، مقتضباً جداً، بارداً وكئيباً. “لقد حاولت مرة تكوين فريق سباحة أولمبي،” قال، حائداً عن الموضوع بالكامل.

 ” هنري. ما زلت في كل دقيقة تصرح عن أكثر الأشياء سخافة” 

 “هل ستتخلين عني؟ فقط من أجل ذلك! ” قال، رافعاً صوته، “من هناك؟”

ما من رد.

نهض هنري مفتوح العينين كمن كان تحت آثار الذهول، وفتح الباب مطوحاً إياه، ناسياً عريه. وقف هناك مشلول الفكر لبعض الوقت، لكن كان من الواضح أن لا أحد هناك إذ إن عريه سيستدعي صخباً ما، أو تعليقاً راقياً.

 ومن ثم أغلق الباب. كان على وجهه نظرة غريبة، فاترة بعينين مدورتنين، وقد ابتلعها حين أمست مقابله. ربما الكبرياء.

 “لقد قررت،” قال معلناً، “بأني لن أتحول أخيراً إلى امرأة.”

 “حسناً هنري، هذا سيساعدنا كثيراً.”

 “وسأصحبك أيضاً لرؤية فان كوخ. لا انتظري، سأدعك تصحبيني أنت.”

“لا فرق، عزيزي، لا يهم.”

 “لا،” قال. “عليك أن تصحبيني!”

 مشى إلى الحمام وأغلق الباب.

” ألا تتساءل،” قالت عبر الباب، “عمن كان هذا؟”

 “ما هذا الذي كان؟”

 “من الذي كان عند الباب؟ في المرتين؟”

” اللعنة،” قال، “أعرف من يكون.”

 “من إذن؟”

 “ها!”

 “ماذا؟”

 “قلت، ها! ما أنا بقائل!”

“هنري، ببساطة لا تعلم من يكون، لا تعرف أكثر مني. أنت ببساطة تتحامق ثانية.”

” إذا ما وعدت باصطحابي لرؤية فان كوخ، سأخبرك من كان عند الباب.”

 “حسناً،” سايرته.” أعدك.”

” طيب، أنا كنت بالباب!”

 “أنت كنت بالباب؟”

 “نعم،” ضحك ضحكة صغيرة تافهة. “أنا أبحث عني! في المرتين.”

” ألا تزال تلعب دور المهرج، هنري؟”

 سمعت صوت الماء يجري في الحوض وعرفت أنه سيشرع بالحلاقة.

” هل ستحلق، هنري؟”

 “لقد قررت حلاقة اللحية،” أجاب.

 لقد عاد ليسبب لها الملل من جديد وفتحت كتابها على صفحة عشوائية وبدأت بالقراءة:

” ألم تعد تريد مني شيئاً؟”

 “أود أن ننفصل، أن تتحري مني، وأتحرر منك. “

 “وماذا عن تلك الشهور الأخيرة؟”

 “لا أعلم. أنا لم أقل لك أي شيء سوى أن ما فكرت به كان حقيقياً.”

” إذن لمَ أنت مختلف الآن؟”

 ” لست كذلك، أنا لم أتغير-فقط أعلم أنه ليس جيداً أن نستمر.”

 أغلقت الكتاب وفكرت بهنري، إن الرجال كالأطفال، عليك مسايرتهم، لا يتسببون بأي أذى. لقد كان أمراً تعرفه كل النساء. حاول هنري-لقد كان كذلك تماماً-لعب دور المهرج هذا. وكل تلك النكات الركيكة. 

 نهضت من على السرير كما لو في حلم، مشت على أرضية الغرفة، فتحت الباب ونظرت إلى الداخل. كان هناك مقابل الحوض فرشاة حلاقة وعليها آثار صابون ولا يزال وعاء الحلاقة مبللاً، لكن الماء في الحوض كان بارداً وعند القعر فوق السدادة، نظر إليها ضفدع حي سمين، أخضر، له حجم قفاز مجعد، ولم يكن بمتناولها.

______________________________

اللوحة للتشكيلي الروسي Igor Moniava

*****

خاص بأوكسجين


مساهمات أخرى للكاتب/ة: