أنا هنا ..ألا تراني
العدد 209 | 04 نيسان 2017
محمد حسين


الأنف

كانت أنف سميرة الكيلاني تثير دغدغدة حميمة في عنقي كلما نظرت إليها، خاصة عندما تضحك فيلتصق منخراها المنمنمين بخديها في مشهد كريكاتيري بريء، كانت عظام أنفها “مبططة” حتى كادت أن تختفي ولا يبقى غير منخريها .

 أحببت ذلك النوع من الدغدغة فحدّقت ربع الساعة في أنفها غير مبال بحديثها مع يوسف جوهر أو قصة شعرها وجذبني الأمر للتفكير بأنفي أنا.

 كانت أنفي إحدى عقبتين في حياتي _الثانية بلاشك هي السمنة وهي شيء غير ذي خطر فهنري شيناسكي في رواية “نساء” لتشارلز بوكوفسكي، وصل وزنه١١٣كجم وتجاوز الخمسين وظل طوال ٥٣٥ صفحه يسكر ويعربد و يضاجع نساءً كثر حتى أنني أخفقت في عدّهم _ فعظام أنفي تتمدد بصورة غريبة أسفل محجري عيني حتى لتداخل مع عظام وجنتي، والأمر الوحيد الجيد هو أن ارنبة أنفي تتدلى وتتطأطأ لتخفي منخري العظيمين نوعا ما..

 بدأت أفكر في أشخاص كمحمد فوزي وأسمهان .. كيف أن منخاريهما كانا جميلين ومنمنمين حتى أثناء الغناء، في حين أشعر أنا باتساع منخري عن آخرهما إذا ما صعدت طابقاً واحداً وفجأة تذكرت أنف الراهب البوذي زين تشي نايجو، من قصة “الأنف” لأوكوتاجاوا ريونكسيه، وما حل بها فحمدت الله وأطفأت التلفاز وخلدت إلى النوم.

***

 

مصلوب بلا صليب

لم أكن أدرى ما كان يلهو بعقلي ساعتها، كل ما شعرت به هو رغبة جارفة بوضع قابس “الموتور” بنفسي ..

 لم تثننِ ضآلة جسمي عن ذلك، فتسلقت جاهدا المواسير حتى إذا استويت لم أدر إلا بانقلاب كياني رأساً على عقب..كنت معلقاً على مسافة من الأرض أشبه بمصلوب بلا صليب أو برسم هزلي لعبقرينو في مجال الكهرباء يبرز عظام جمجته، وكان يلوح أمام عيني مشاهد مختلطة مرتعشة، باهتة ومقلوبة لبرك مياه على الأرضية، ومعارف يذرعون الممر جيئة وذهابا أو يراقبون عن كثب.. استغرق ذلك زمنا ليس بالقصير فاضطررت لإغلاق عيني ولم أفق إلا وهم يتناوبون على حملي.

 كل ما تبقى كانت إصبعاً ملتوية بعض الشيء وذكرى قطار ببطارية يتحرك على قضبان من البلاستيك في جلسة حميمية. أصبحت معروفا وسط أترابى بعبارة “اللي مات وصحي”.. عبارة أخذت حقها من الشهرة ثم اندثرت ولم يعد يتذكرها أحد سواي.

***

 

يوسف

كانت القرية هادئة ساكنة كعادتها في الساعات المتأخرة من المساء، والنوم يغطي منازلها المتناثرة في نسق دائري والمتنوعة ما بين هذه المبنية بكتل من الخرسانة وتلك الوطيئة المسقوفة بعروق من الخشب حتى لتكاد تسمع صوت الانفاس المنتظمة والشخير المتصاعد من النوافذ دون إحداث ضجة عالية .

على امتداد الطريق غير الممهد المؤدي إلى القرية سارت عربية زيتية اللون مخلفة وراءها سحبا كثيفة من الغبار وموتورها يزمجر بين الحين والآخر، في حين كانت الفوانيس الأمامية عبثا تضيء الطريق الموحش المظلم أمامها.

توقفت السيارة عند الساحة الواسعة خارج زمام القرية ونزل منها خمسة جنود تغشى وجوههم الظلمة ..أربعة منهم أنزلوا تابوتا خشبيا من صندوق السيارة في أناة ثم ساروا به عبر شوارع القرية الدائرية يتقدمهم أطولهم.

وكانت بياداتهم تطرق الارض  طرقات خفيضة منتظمة في ان واحد ..

توقفوا أمام باب خشبي أخضر ضخم .. طرقه ذاك الطويل الأصلع مرة والثانية والثالثة ثم جاءهم صوت الحاجعثمان الناعس وهو يعالج الباب:

“من؟؟”

بمجرد أن فتح الباب دفعه الطويل الأصلع في رفق إلى داخل الدار وهو يشير إلى فمه:

“صه”

 

“يوسف..!” هتف الحاج عثمان في نفسه بمجرد أن لمح الزي العسكري والتابوت في ذلك الظلام.. كان قد رأى يوسف في المنام ليلة أمس وجهه يشع نورا وله جناحان أبيضان يحلق بهما ويرتفع إلى السماء ويصيح في صوت فرح ضاحك وهو يلوح بجناحيه :

“أنا هنا يا حاج… ألا تراني؟؟!… يا حااااااج..”

قال الأصلع في صوت غليظ آسف:

“يؤسفني أن أبلغك يا حاج عثمان أن ابنك يوسف…”

“مات…” قالها عثمان في صوت منكسر خفيض

مط الأصلع شفتيه في أسف  .. سألتْ عينا الشيخ عما حدث فاستطرد ذلك الطويل الأصلع يقول:

“كان يحاول الهروب .. صدمته سيارة اثناء عبوره الطريق…”

لم يدر الشيخ ما قال الجندي ..كان غارقاً في أفكاره يتذكر يوسف عندما كان في العاشرة من عمره يلهو مع ابنة عمه في البيت .. كان بين الحين والحين يسترق نظرات براقة الى وجهها البريء فيها شيء من الرفق والإعجاب.. لاحظ الشيخ ذلك فسأله مداعباً:

” عندما تصبح كبيراً.. اتريد أن تتزوجها..؟”

أومأ الفتى بالإيجاب في خجل لكنه استطاع أن يلمح في عينيه البريق ذاته حين كان ينظر إليها..

تذكر الشيخ أنه كان يستغل ذلك الأمر لإثارة غيظه فيقول:

“ستتزوج من ابنة فلان أو ابنة علان”

فيصيح الفتى وقد احمر وجهه في غضب صامت:

“لا سأتزوج ابنة عمي أمل”..

قبيل الذهاب إلى الخدمة وبينما يوسف يعد أغراضه..ربت الشيخ على كتفه قائلاً مبتسماً في حنان:

“عندما تنهي الخدمة ستتزوج من ابنة عمك أمل”

“حاج عثمان..” صاح ذلك الطويل الأصلع فأفاق الشيخ إلى صوته … أشار الجندى بسبابته محذراً:

“الميت قد استوفى حقه من الغسل.. فلا يعبث أحد بالكفن ولا يمسسه أحد … ذلك لسلامتكم…”

سلم الجنود الخمسة على الشيخ وخرجوا واحداً تلو الآخر… لكن الأخير وقف أمام الشيخ وهو ينظر في حذر للجنود الأربعة أمامه:

“اسمع يا شيخ… يوسف لم يهرب .. ولم تصدمه أية سيارة…”

تغيرت معالم وجه الشيخ…. استفسرت عيناه عما حدث.

قال الجندي بسرعة وبصوت خفيض :

“أصابته رصاصة طائشة أثناء التدريب … أنصحك يا شيخ ألا تترك حقه.. ارفع قضية.. اطلب الاستفسار عما حدث ..”

أطرق الشيخ ملياً .. ثم نظر إلى الجندي بعينين مغرورقتين وصاح في صوت باكي :

“الله أعطى … الله أخذ… الله عليه العوض….. إنا لله وإنا إليه راجعون …… إنا لله وإنا إليه راجعون”

*****

خاص بأوكسجين