أميركا الاستثناء
العدد 255 | 24 نيسان 2020
زيدي سميث


 

قلّما يقول الصدق، ويصبح الصدق عندما يخرج من فيهِ أشبه بالوحي بمجرد تفوهه به، على غرار ما قاله في 29 مارس 2020: “أتمنى أن نستعيد حياتنا السابقة مجدداً، حين كنا نملك أعظم اقتصاد على مرّ تاريخنا، ولم نكن نواجه هذا الموت”.

حسناً، ربما ليست الحقيقة الكاملة، فالعبارة الأولى ليست صحيحة أو خاطئة، بل تعبر عن رغبة، أعترف أنني عندما سمعتها، وشعرت بصداها يرتد على جنبات روحي، أحسست بوزنها في يدي للحظة يتيمة، كما لو أنها تفاحة نضرة. وبدت لي أمنية بحلول “زمن الحرب” ولكن على استحياء، فالحرب هي الكناية التي اختار استخدامها، إلا أن ما من أحد عام 1945 تمنّى العودة إلى “الحياة السابقة”، أي إلى عام 1939، باستثناء إحياء الموتى. اقتضت الكارثة وقتها فجراً جديداً يستحيل الوصول إليه دون تفكير جديد، وهذا نعلمه ونعرفه. إلا أنه بقوله: “أتمنى لو نستعيد حياتنا السابقة مجدداً”، فقد باغت مستمعيه في لحظة ضعف، إما متباكين في فساتين الفرح، أو متحدثين على الهاتف بخصوص العمل، أو حاملين في أحضانهم طفلاً أثناء حديثهم على الهاتف بخصوص العمل، أو مرتدين سترة واقية منزلية الصنع، ويستجمعون شجاعتهم لاختراق مترو الأنفاق، في طريقهم إلى العمل الذي لا يمكن إنجازه من المنزل، أثناء قيام ملايين الأطفال الضجرين بتسلّق الجدران من غرب أميركا إلى شرقها. ما من شك أن عبارة “حياتنا السابقة” لها وقع مطمئن في هذا السياق، حتى لو كان غرضها بلاغياً فحسب على غرار “كان يا ما كان” و”لكنني أحبّه”، وهذه العبارة الأخيرة أعادتني إلى وعيي، بعد هذا الهراء الفارغ، فالشيطان لا يكلّ ولا يملّ من إغوائنا، لذلك رميت تلك التفاحة ويا عجبي، فقد كانت فاسدة وتغزوها الديدان.

ثم نطق الحقيقة: “لم نكن نواجه هذا الموت”.

كان لدينا متوفون، ومصابون وضحايا، وكان لدينا متفرّجون تتفاوت درجة سذاجتهم، كان لدينا تعداد للجثث وربما صورٌ في الصحف لأكياس الموتى على الرغم من قناعة الكثيرين من عدم صحة عرضها. كان لدينا “نتائج صحية متباينة”، إلا أنها جميعاً تنطوي في أميركا على درجة معينة من الملامة عندما يتعلق الأمر بالموت. تشعر بأنك في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ؛ وتحت لون الجلد الخاطئ؛ وعلى الجانب الخاطئ من الطريق؛ ولديك الرمز البريدي الخاطئ والمعتقدات الخاطئة؛ وتسكن المدينة الخاطئة؛ وعندما طلب منك الشرطي النزول من السيارة وضعت يديك في المكان الخاطئ؛ وتأمينك الصحي خاطئ أو غير موجود من الأساس؛ وسلوكك مع ضابط الشرطة خاطئ. ما كان ينقصنا تماماً هو مفهوم الموت بحد ذاته، الموت المطلق، ذلك الموت الذي لا يترك أحداً، بغض النظر عن مكانتنا، الموت المطلق هو حقيقة وجودنا بأسرها، إلا أن أميركا نادراً ما انجرفت للتفكير الفلسفي تجاه الوجود، مفضّلة بدلاً من ذلك التعامل مع الموت كسلسلة من المشاكل المنفصلة غير المترابطة، فتشنّ حروباً على المخدرات والسرطان والفقر وهلم جرّا. لا أقول إنه من الإسفاف محاولة إطالة الفترة الفاصلة بين التاريخ المذكور في شهادات الميلاد وذلك المنقوش على شاهدات القبور، فأخلاقيات الحياة تعتمد على مغزى هذا الجهد، إلا أن الأمر يختلف جملةً وتفصيلاً في أميركا عما هو حول العالم، فما من مكان آخر سواها يربط هذا الجهد ونجاحه النسبي بالمال إلى هذه الدرجة، وربما هنا يكمن السبب وراء إحالة الأوبئة إلى التاريخ أو إبعادها إلى القارات الأخرى في الخيال الأميركي منذ وقت طويل، إذ تتميز هذه الأوبئة بتدرج هرمي منقوص، ولا يهمها التفاوت في الدخل من قريب أو من بعيد. ففي الواقع، وكما أوضح الرئيس في وقت سابق خلال توليه المنصب، تُعتبر جميع الدول “بؤر القذارة” مُلامة على ارتفاع معدلات الوفاة فيها، فهي من حيث المبدأ في المكان الخاطئ (هناك) والزمان الخاطئ (في مرحلة مبكرة من التطور). أصحبت بعض الدول دائمة الهوس بعدم امتلاك البصيرة الكافية لتتحول إلى أميركا، وحتى الانقراض الجماعي العالمي، الذي يكون على شكل انهيار بيئي، لم يكن ليصل أميركا، أو كان ليصلها في نهايته فقط، في لحظته الأخيرة. وفي حصنها المنيع، وملاذها المسوّر بجدران شاهقة، يمكن لأميركا استهلاك ما تبقى من مواردها الغذائية، لتبقى عظيمة عند مقارنتها بالآخر المكروب هناك بعيداً عن حدودها.

ولكنه الآن، وكما قال حقاً، فنحن عظيمون في الموت، نحن هائلون فيه، وهناك مخاوف من أن تقود أميركا العالم فيه عند قول كل ذلك وفعله. حيث تبّين أن الطبيعة الديمقراطية المفترضة التي ينتهجها الوباء، والطريقة التي يمكنه فيها إصابة جميع الناخبين المسجلين بالتساوي، مبالغ فيها بطريقة أو بأخرى. إذن فهو الوباء، ولكن الهرمية الأميركية ومئات السنين في تجهيزها لن تكون سهلة التغيير. وتستمر بعض الفوارق الأميركية في الظهور في خضم الموت العشوائي، ويتضاعف معدل الوفيات بين السود واللاتينيين مقارنة بالبيض والآسيويين، وترتفع أعداد الوفيات بين الفقراء عنه بين الأغنياء، وفي المراكز الحضرية عنه في الأرياف، حتى أن مخطط انتشار الفايروس في ولاية نيويورك سيصبح أشد احمراراً بالنسبة للخطوط نفسها إذا ما عبرّت تدرجات الأحمر عن شرائح الدخل وعلامات المدرسة المتوسطة بدلاً من تعداد الإصابات والوفيات. وفي النهاية، نادراً ما كان الموت عشوائياً في هذه الولايات، فطالما كانت له ملامح ومكان ونتيجة نهائية دقيقة، فالنسبة لملايين الأميركيين، لطالما كان الأمر أشبه بالحرب.

ولكنه الآن، وللمرة الأولى كما يبدو، يراه، ويسمّي نفسه في استعجاله لنيل المجد برئيس زمن الحرب. دعوه يتقلّد هذا اللقب، على غرار رئيس الوزراء البريطاني على الجانب الآخر من المحيط الذي يحاول وضع نفسه في مكانة تشرشل، الذي أتم دوره خلال الحرب على أكمل وجه، ولكنه تعلّم درساً قاسياً أن تبعية الشعب في حالة الحرب، حتى مع موافقتهم على الأداء الحربي “العظيم”، لا يعني بالضرورة أنهم يرغبون في العودة إلى “الحياة السابقة” أو الانتقال إلى حياة جديدة تحت قيادتك. الحرب تغيّر محاربيها، وما كان ضرورياً يبدو عرضياً، وما كان مُسلّماً به، ومستغلاً ولا يحظى بتقدير أصبح يكاشفنا بأهميته في وجودنا، ونلقى أنفسنا أمام تحولات غريبة، ويجد الناس أنفسهم مهللين للخدمات الصحية الوطنية التي أجرمت حكوماتهم في إهمالها وإنقاص تمويلها طوال السنوات العشر الماضية، وأصبح الناس يحمدون الله على العمال “الأساسيين” الذين اعتبروهم وضيعين مرّة، ورموهم بشتى أنواع الشتائم والازدراء لمجرد طلبهم أجراً بقيمة 15 دولاراً في الساعة منذ فترة ليست بعيدة.

وصل الموت إلى أميركا، وعلى الرغم من وجوده هنا دائماً، وإن كان تحت حجاب من الإنكار والإخفاء، إلا أن الجميع يرونه الآن. و”الحرب” التي تشنها أميركا ضده لا تملك من خيار سوى أن تتجاوز عن رئيس صوري فارغ من بين يديه ومن خلفه. هذا الجهد جماعي، وملايين الناس مشتركين فيه، ولن يكون بمقدورهم نسيان ما شهدوه بسهولة، فهم لن ينسوا المأزق الأميركي البائس أثناء مشاهدة تصريحات بعض الأشخاص، مثل حاكم نيويورك، أندرو كومو، الذي قالها بصورة لا يمكن نسيانها: إنها مزايدة كما لو كانت “على eBay” للحصول مع معدات لإنقاذ الأرواح. الموت لا يذر أحداً، ولكن من المعقول في أميركا منح من يدفع أكثر من بين المزايدين فرصة أفضل في تأخير وصوله إليه.

يحتمل أن يكون الأمل في حياة أميركية جديدة تصبح فيها هذه الفكرة مستحيلة في النهاية، وأن يجد الجيل الجديد من القادة الأميركيين إلهامهم ليس في عنتريات ونستون تشرشل الحربية، بل في كلمات السلم التي قالها كليمنت أتلي، نظير تشرشل في مجلس العموم البريطاني ورئيس حزب العمال الذي فاز عليه بعد الحرب بأغلبية ساحقة: “انتصرنا في الحرب بفضل جهود الجميع الذين، مع استثناءات بسيطة، وضعوا الوطن على رأس أولوياتهم وقبل مصالحهم الشخصية والإقليمية….. لماذا نفترض أنه بالإمكان تحقيق أهدافنا في السلام وتأمين المأكل والملبس والمسكن والتعليم والرفاهية والأمان الاجتماعي وفرص العمل للجميع من خلال وضع مصالحنا الشخصية أولاً؟”

نظراً لأن الأميركيين لا يكلّون الجدال، فقد تلعب المصالح الشخصية دوراً مركزياً في العديد من جوانب حياتنا، ولكن أوروبا التي أثقلها الموت المطلق بعد الحرب، قررت ألا تكون الرعاية الصحية إحدى هذه الجوانب.

———————————–

عن مجلة The New Yorker

*****

خاص بأوكسجين

 


مساهمات أخرى للكاتب/ة: