أقسم أنّه ليس ظلّي | توفيق بن حنيش

العدد 246 | 1 آب 2019

 

لم أكن أعرف أنّ الشّرطيين كان يتبعانني منذ خرجت من عيادة الطبيب. كنت أسمع وقع أقدامهما على الطريق ولكنّي كنت ألتفت فلا أرى أحدا. وما إن مررت بالقرب من عمود الإنارة حتّى ارتميا عليّ وأمسكا بي وهما يصرخان في وجهي:" أنّى لك الإنكار أيها المجرم. كنّا نعرف أنّك اجتهدت في تغيير ملامحك بصبغ شعرك وحلق شاربك وتغيير مشيتك وحتى صوتك. وكنا نعرف أن هذه الملابس التي تلبسها لا تناسب عمرك ولكنّنا لم نكن نملك ما نقيم به عليك الحجة حتى حاصرك الضّوء وانفلت منك ظلّك الذي لم تجد له بديلا. "

ساقني الشرطيان إلى "المركز" وهما يتناوبان على تكميمي والإضاءة ورائي لئلا ينفلت منهم الظلّ الحجة. وفي الأثناء, كانا لا يكفّان عن استجواب الظلّ: - هذا صاحبك؟

فيردّ بكلّ ثقة: نعم...هو صاحبي وأنا ظلّه. وكم أشتاق إليه حينما ينعدم الضوء فأكمن فيه.

صمتا.. لا تزد على المطلوب في السؤال. هل تؤكّد لنا أنّه هو من كان لبس حذاءه مقلوبا وسرق الماشية من السماء؟
أؤكّد ذلك...كنت معه...
-صف لنا ما حدث.
كان يمشي مواجها ضوء القمر. وأعتقد أنّه نسيني وأنا وراءه.
ماذا فعل بالضبط؟
سأحدث الباحث بالتفصيل. اصبرا حتّى نصل"المركز".

كنت أحاول الكلام لأخبرهم أنّه ليس ظلّي. ولكنّهما كان يحكمان إغلاق فمي بيديهما. فتضطرب حركة الفانوس الذي يحملانه. فيفرّ الضوء بعيدا. ويتلاشى. فيناديانه همسا. فيجيبهما:" أنا هنا , عدّلا وضع المصباح لأخرج لكما." فيأخذ أحدهما في تعديل المصباح وإذكاء شعلته. ويداه ترتعشان. فيظهر الظلّ مبتعدا ومقتربا, ومتطاولا ومنحسرا. وكم ترعبهما هذه الحركات فيتلاعنان بعنف . أمّا أنا فكنت أبحث برجليّ عن بدايات الظلّ عندي لأدوسه وأعجنه. وكنت أقول في سرّي:" ليته يُدْني مني رأسه الأجوف فأفضخه بحذائي الخشن." لكنّه كان يسبقني وهو يباعد بين رأسه وبيني. وحتى دوسي رجليه لم يكن يؤلمه البتة.

لم يكن الظلّ رصينا وكان يكثر من الثرثرة ولا يفكّر في ما يفعل وفي ما يقول. وكنّا حينما نمرّ بظلّ جدار ينكسر على الحائط. فأشمت فيه وأظهر له سعادتي ببريق عينيّ. ولكنّه كان ينشغل بحكّ ذقنه أو تخليل شعره بأصابعه أو التفتيش في جيوبه عن شيء غير موجود أصلا ولم يكن يعبأ بنظراتي الشامتة. ويمرّ منزلقا على الأرض وهو يردّد أغاني الشيخ إمام (يا دكتور محسن...وغابة... وبقرة حاحة) أو يترنّم بأغاني مارسيل خليفة وأشعار محمود درويش وسميح القاسم. وبدا لي أنّه يستعجل الوصول إلى الباحث لينتقم منّي.

كم رجوت الله أن يبعث كلاب السّعير أو حتى كلاب الأحياء المجاورة لتمزّقه أمامي فتترك أشلاءه تائهة في الثقب الأسود . فأنا لا أعرفه. ولم يسبق لي أن صحبت ظلاّ كذّابا وقحا وظالما بهذا الشّكل. وكنت كلما سمعت نباح كلب فوق السطوح دعوت الله سرّا أن يهبه جناحين لينزل إلى هذه الوليمة فيمرغها في التراب ويمزقها. لكنّ يبدو أنّ تلك الكلاب النابحة فوق السطوح لم تكن تشغلها الظلال ولا الأضواء بل كانت, و هكذا هُيِّئ لي, تتراسل بالقصائد الغزلية. ولذلك واصلنا نمشي والمصباح ورائي والكفان الغليظان يسدان فمي.

في "مركز" الشرطة, جلس الظلّ على كرسيّ خشبي. وبقيت أنا واقفا وقد وضعوا لي كمامة كلاب على فمي بدل الكفين الآدميين. وتركَانا الشرطيان لوحدنا وليس معنا ثالثٌ. وذهبا يعدّان لوازم التحقيق وهما يتندّران ويتفكّهان بقصص الكلاب التي تنبح فوق السطوح. كنت منفعلا. وحاولت مرّات ومرّات أن ألعنه. لكنّ الصّوت لم يكن يخرج من الكمامة. وكان ينظر إليّ مبديا الأسف على ما أصبني وهو يزداد التصاقا بالكرسيّ الخشبي.

اسمك ولقبك وعنوان إقامتك.

ولمّا تفطن الباحث إلى أنّ الكمامة "الكلبية" تمنعني من الكلام أمر الشرطيين بنزعها. وفي الوقت ذاته أمر الظلّ بالوقوف. فتحرك الفانوس الذي نسي الشرطي إطفاءه. فوقف الظل معتدلا وقد التصق ظهره بالجدار. بدا يحرّك يديه بعنف متحمّسا للكذب. وما إن سأله الباحث عن البقر والنعال المقلوبة حتى انطلق يكذب وهو يعدد البطولات الوهمية التي شاركني إيّاها. ورغم أنّهم قد نزعوا الكمامة عن فمي إلاّ أنّني لم عد قادرا على الكلام.

اجتهدت كثيرا لتذكّر بعض الكلمات الضروريّة لخلاصي. ولكنّ الكلام مات فجأة ولم أعد قادرا  إلاّ على كلمتين: "والله "  و"ليس". وكنت أعيدهما باستمرار ولا أزيد عليهما. ولم يكن الباحث يهتمّ بهما. وواصل يستمع إلى الشّهادة المزورة.

" في الليلة المقمرة, كنت معه وهو يلبس النعلين مقلوبين. وصحبته إلى حيث أبقار الآلهة. وكنت أجتهد في التخفّي حتى أشهد عليه وأساهم في تحقيق العدالة. ولما طلبت الآلهة أبقارها ولم تجدها اتبعت الآثار فوجدتها مقلوبة. " وقبل أن ينهي الظلّ, أسكته نباح كلاب على سطوح قرب"المركز". فتحرّكت فيه الغلمة. وفقد اللغة أصلا. فتأرجح مصباح غرفة التحقيق في حركة ذهاب وإيّاب. وجعل صاحبي يبتعد عنّي ويقترب. ثم جعل رأسه يلامس السّقف وينزل إلى الأرض. ورأيته يطلب النّفس من الأكسيجين فلا يحصل عليه.

"سيدي الباحث..." وحضرتني اللغة كلّها فجأة. وبدأت الكلمات تُولد على شفتيّ وفي حلقي. وتزاحمت بين يديّ الجملُ الفاتنةُ. فبدأت بلعن الظلّ ..." سيدي الباحث..."وأدركتْ كلابُ السطوحِ بعضها. وازداد نباحها والظلّ يلطم رأسه على الحائط.  وتحوّل النباح إلى هرير. وانطلق نبع اللغة من فمي صافيا رقراقا:" سيّدي الباحث , أقسم أنّ هذا ليس ظلّي.  انظر إليه إنه ل يشبهني البتة. أذكر أنه التصق في منذ بعض الوقت في الشّارع.

"سيدي الباحث... قد أفاجئك بأنّه لم يعد لي ظلّ يصحبني منذ أن خلّصني منه الطبيب. نعم رأى الطبيب أنّ بدني لم يعد يقوى على حمل الضدّين ولذلك نصحني بترك الملح في الغذاء والاستغناء نهائيا عن السكّر والشحوم والإكثار من المشي. ونصحني أيضا بالتخلص من ظلّي. وما خرجت من عنده إلّا وظلّي في سلة المهملات. هكذا انتزعه مني وهكذا لفه لفّا وطرحه في القمامة. انظر, سيادتك, انظر فأنا بلا ظلّ تماما. وانظر إلى ذلك الدّعيّ كيف قتله نُباحُ الكلاب على السطوح.

حينما أدركت المنعرج الأخير, استجمعت ما بقي لي من شجاعة ورباطة جأش, ونظرت خلفي فإذا شيء أسود يتبعني...

في 31جويلية 2019    

  *****

خاص بأوكسجين

كاتب من تونس.

معلومات الصورة
الصورة من أعمال الفنان ليون كوسوف (1926 - 2019)