أقرب من البعيد بقليل
العدد 208 | 19 آذار 2017
المعتصم خلف


صدقوني لا أعرف كيف تبدأ هذه القصص ولكن جدتي مريم والتي لا يعرف أحد متى ولدت ولا حتى هي، تبدو في نظر الجميع كأنها قد دخلت التسعين من عمرها ومازالت حتى الآن تطحن القهوة وتعجن الحناء وتلاحق هواجس الليل وتفرد جدائلها النحيلة لتستعد للاستحمام..

وفي كل مرة أقابلها أرى كيف تركض على جلدها رائحة فلسطين وأتأمل عيونها التي تنتظر اجتماع الجميع حولها لتقسم بالله أن أبي الشهيد زارها بالأمس على هيئة فراش أبيض يطير…

جدتي مريم والتي تعيش الآن في أبعد الأماكن الآمنة في ريف دمشق مازالت ترش الماء أمام البيت لتضع مخدة النوم فوق مسطبة إسمنتية لتصف لعابري السبيل أو لنفسها طيش خيول أبيها في منطقة “الجب يوسف” في “قضاء صفد” أو لتحكي عن طريق هجرتها نحو الجولان السوري ولتصف بحسرة ما نسيته من تنك زيت الزيتون ولتتباهى بلامبالاة واضحة بأساور فضية اشترتها من القدس…

وفي كل فترة أسمع من الأقرباء قصص سيرها الطويل نحو قبور الأولياء والصالحين وعن شموع تضيئها فوق قبور لا تعرف أصحابها مسكونة بالبحث عن شيء ما وعن شهداء لم تروِ لي قصصهم…

 وكلما سألتها عن الصحة تقول “أنا بخير مازلت قادرة على السير والوقوف وعلى نقل السلامات بين المسافرين وإلى الآن يزورني الشهداء في النوم وفي الصلاة… “

أتذكرها وهي تخطئ العد بعد الرابعة عندما أسألها عمن مات لها من أطفال بسبب النزوح  المتكرر وقلة الغذاء والأطباء… وأخاف أن أقول أني اكتشفت من صوتها فشلها في تذكر أماكن قبورهم ولربما لهذا السبب تضع الشموع فوق قبور لا تعرف أصحابها وتدافع عن نفسها أمام أبنائها وتعالج غياب الذاكرة بقبور مجهولة…

 جدتي مريم والتي ما زالت تحمل في وجهها آثار نكبة ونكسة وشهيدين وشعب كامل من الخيام وأرض خصبة للنسيان… في هذه الساعة تسحب الوضوء من الماء لتصلي العشاء بآيات ناقصة وكلمات غير موجودة في القرآن ولكن مازلت أخجل من تصحيح كلماتها لها وكنت أتساءل من أنا لأصحح لجدتي ما تقول؟!

*****

خاص بأوكسجين


كاتب من سورية.