أشباح الحزن
العدد 254 | 12 نيسان 2020
كريم محسن سمير


 

-1-

 

استيقظت على صوت التلفاز، الذي تركته طوال الليل ينبح في ظلام الغرفة ونمت قابضًا على الموبايل بيدي الاثنتين، كأني قابض على سلاحي الوحيد في معركة مع كائنات لا مرئية.

استيقظت بروح هزيمة غير متحققة، رغم ذلك أشعر بطعم مرارتها في فمي. استجمعت بصعوبة أن اليوم هو الجمعة. اليوم إجازة رسمية، بموافقة رسمية من كل الجهات والمؤسسات، اليوم يسمحون لي بإراحة جسدي. استراحة تشبه أخذ نفس عميق قبل الغوص في البالوعة العمومية مرة أخرى.

شعرت أن أقصى ما يمكنني فعله هو الزحف باتجاه الحمام والمطبخ وممارسة الاستمناء مرتين كحد أقصى. لذا أرسلت رسالة إلكترونية أعتذر فيها عن أي موعد حددته اليوم، تحججت بمشاوير ومواعيد أخرى اختلقتها في ذهني لحظة كتابة الرسالة.

المهم أن اليوم كله ملكي. وقتي ملكي، وحياتي رهن إشارتي لمدة محدودة. أصبحت “الحياة” مسلوبة مني، حيث أقصى ما يمكن فعله هو استردادها كاستعارة ليوم واحد أو يومين، كأن الطبيعي هو الموت.

 

أنا جثة في مقبرة، وأحيانًا أخرج للحياة كشبح.

 

رن جرس الباب، ناديت على أمي فخرجت مني صرخة كأني أستغيث: “ماما، افتحي الباب، مش قادر اقوم”. لم ترد على ندائي، تجاهلتني لعدم قدرتها على خوض صراع مع خشونة ركبتها في تلك اللحظة، فتركت ندائي يدوي في الشقة كطفل تائه على أحد الشواطيء.

 

-2-

 

جريت في شوارع مدينة نصر ليلًا، يطاردني رجل بكرش سمين وشنب أسود كث وسرعة عداء أوليمبي.

وعلى الأرض خلفنا تجري مجموعة من كلاب الشوارع بدافع المرح والتسلية بدلًا من السأم الليلي، لكن بنظرة سريعة للوراء، بدا لي المشهد كأن عصابة بأكملها تجري ورائي بطول شارع عباس العقاد. جريت كما لم أجرِ من قبل، حتى فقدت الشعور بسرعة قدميّ، كأنهما خرجتا عن سيطرتي ولم أعد أستطيع التحكم بهما، لكنهما واصلتا العدو بسرعة جنونية على أي حال، حتى وجدت تاكسي في منتصف الشارع، يقف سائقه بانتظاري بشكل سينمائي ويشير لي بأن أركب معه فهو طوق نجاتي الوحيد.

رميت نفسي على الكرسي المجاور له وانطلقت السيارة بسرعة، يقودها كهل يرتدي تيشيرت سماوي يناسب شابًا في العشرينات من عمره، مرسوم عليه مشهد طبيعي لشاطئ وبحر ونخلة، وفي الركن السفلي من التيشيرت جملة حمقاء بالإنجليزية، مكتوبة باللون الأحمر.

نظرت في مرآة السيارة للتأكد من مدى بُعد الرجل والكلاب عنا، لكن لمحت كلبًا بائسًا وحيدًا مازال يحاول اللحاق بنا، كأننا فرصة سعادته الأخيرة في الوجود.

 

-3-

 

عندما فتحت الباب، وجدت رجلًا يرتدي بدلة فضاء، بدون خوذة، يحمل شنطة معدات بيضاء، مطبوع عليها إيموجي (emoji) أصفر مبتسم.  كان مبتسما هو الآخر، ينظر أمامه كأنه لا يراني، قال “مساء الخير”، ثم تحرك بخطوات ثابتة حتى أصبح في منتصف الصالة.

قبل أن أتكلم أو انفعل، بادرني بصوت يشبه أصوات الشخصيات الكرتونية المدبلجة للعربية:

-نحن جمعية مكافحة أشباح المدينة، جمعية عالمية، أصبح لها أكثر من مقر في مصر، مهمتها الحالية إجراء مسح شامل على مستوى كل المحافظات، يهدف إلى توثيق منسوب السعادة في كل منزل وشارع وحارة. دورنا الحالي هو تجميع البيانات لا أكثر وقريبا من الممكن الإعلان عن أهداف هذا المشروع للجميع. لذا فلا تخاف ولا تحزن، لن يستغرق الموضوع أكثر من دقائق.

طلبت منه شهادة موثقة تابعة للمنظمة تُأكد كلامه، أي شيء يثبت لي أنها ليست مجرد عملية نصب، فنظر لي نظرة غاضبة، فجّرت ينبوعاً من الخوف داخلي، ثم عادت عينه إلى حالتها الطبيعية وفشخت الإبتسامة وجهه مرة أخرى، وقال:

-نسيت أن أقول لك، كل أحاديثنا مسجلة. حيث تخضع هي أيضا لعملية تحليل، تشارك في تحديد منسوب سعادتك/سعادة المنزل. ليس في مصلحتك أن يبدو عليك امتلاك حس نقدي، يدرك التناقض ويطرح أسئلة محاولا الفهم، أرجوك تجنب ذلك، هذا يغضبهم كثيرا. وعلى كل حال، يمكنك مراقبتي وإدراك مدى بساطة العملية. كم عدد أفراد الأسرة؟

صمتُ مندهشا من تهديده واقتحامه المنزل والأسئلة التي بدأ في طرحها علي، لكني فضلت “المشي جنب الحيط” مؤقتًا، على الأقل حتى أفهم أبعاد الوضع، جاوبته باقتضاب:

-اثنين، أنا وأمي، أبي توفى منذ ثلاث سنوات.

-هل مات حزينًا؟ هل توفي بعد مشكلة عائلية أو ضائقة مادية؟

-لا، توفى فجأة.

-منذ متى وأنتم تعيشون في مدينة نصر؟

-بعد وفاة أبي.

دوّن معلوماتي في كراسة بيضاء، ثم وضع الشنطة على الأرض، فتحها وأخرج منها جهاز مستطيل، طوله ثلاثة أضعاف عرضه، بدأ في تحريكه على الحوائط، وكلما انتقل به من منطقة لأخرى، تتغير الأرقام على الشاشة المثبتة على ظهر الجهاز، قام بعملية مسح شاملة لكل حوائط الشقة، ثم طلب منا، أنا وأمي، التي طلبتُ منها بدوري الصمت والهدوء، التبول في علبتي تحليل البول اللتين أخرجهما من الشنطة، كما طلب شعرة من فروة رأس كل منا.

دوّن الرقم النهائي الذي ظهر على شاشة الجهاز، تأكد أن العبوتين مغلقتين بعناية، وضعهم في الشنطة وأغلقها. لم يطلب مني فتح الباب، تحرك باتجاهه، وضع ملصق دائري صغير عليه إيموجي الجمعية الأصفر على الباب وطلب مني عدم إزالته، ثم فتح الباب وخرج.

 

-4-

 

أشعر بسيولة في ذاكرتي تجعل من الصعب إستعادة الحدث في شكل صلب وواضح، تذوب ذكرياتي بفعل توتر داخلي، وتمتزج الأحداث دون حدود فاصلة ترسم لها هيئة وشكلا واضحا.

 

تنفست بانتظام لمدة دقائق أملًا في تخفيف حدة توتري، أسندت رأسي لظهر السرير، وبدأت في تذكر تفاصيل ما حدث منذ ساعتين.

في الساعة الثانية بعد منتصف الليل كنت أقف في أول شارع عباس العقاد، منتظرًا الميكروباص الذي أستقله كالعادة لنهاية الشارع حيث أسكن. لم يكن في جيبي غير خمس جنيهات، الأجرة لآخر الشارع جنيهان ونصف الجنيه.

بعد نصف ساعة من انتظار ميكروباص لا يأتي، قررت المشي حتى البيت، بخطوات تتراوح بين السرعة والبطء.

حتى سمعت صوت أحدهم ينادي علي كأنه رعد مفاجئ يضرب سماء الصمت المحيط: أستاذ، البطاقة.

التفت إليه وأنا اتحسس جيبي الخلفي بيدي اليمنى التي سرت فيها رعشة خفيفة، أخرجت البطاقة وأعطيتها إليه. الشارع خالٍ تماما إلا من الكلاب، أصحاب المدينة وسكانها الأصليين. سلاحه المعلق في حزامه الجلد السميك وعبارة “قوات مكافحة أشباح المدينة” على قميصه، كانتا إشارتين كافيتين لفهم كل شيء.

بعدما أعطاني البطاقة، طلب مني الموبايل.

بدأ في البحث والتنقل بين التطبيقات وحساباتي الشخصية، بعدما انتهى، نظر إلي بابتسامة لا تتناسب مع ملامحه أو طبيعة الموقف وقال: ثلاث صور تبدو فيها عابسا، خمس تغريدات تنم عن يأس، منشورات من الصعب احتمال ما تحويه من كآبة. قضية متكاملة.

بعدما انتهى من كلامه، وفي حركة سريعة، سددت له ركلة عنيفة في خصيتيه وسحبت الموبايل من بين أصابعه ثم بدأت أعدو.

 

-5-

 

-مشروع إقصاء.. إقصاء خطاب الحزن.

قالها سائق التاكسي وهو ينظر لنقطة ما أمامه، كأنها منبع إلهام ما يقوله من كلام مبهم. نفث بعدها دخانا كثيفا من فتحتي أنفه الكبير واحتفظ بمبسم الشيشة بين شفتيه الغليظتين، حتى يحافظ على إيقاع تدخينه اللاهث.

انتظرت أن يكمل كلامه، لكنه تركني اتحلل جانبه في صمت، تداعب أنفي الدقيق رائحة الدخان والمعسل الطازج الذي يحترق بلذة أسفل جمرات صغيرة من الفحم.

 

-6-

 

لم أخبر سائق التاكسي عنوان بيتي، بدا كأنه يعرفه بالفعل.

لم نتحدث حتى وصلنا أمام العمارة التي أسكن فيها، فتحت الباب ونزلت. وضع ورقة في جيب قميصي المبلل بالعرق، ثم قال لي: “سلام، نتقابل بكرة”.

لم أسأله عن الأجرة. أولا، لأن جيبي يحتوي على خمس جنيهات مكرمشة. ثانيا، بدا ما يحدث أكبر من ذلك بكثير.

في اليوم التالي بعدما انتهيت من عملي في الساعة السادسة مساء، اتصلت به.

-مساء الخير

-الساعة تسعة مناسب ليك؟

فاجأني برده سريعا.

-آه مناسب جدا

-خلاص قابلني الساعة تسعة عند قهوة جواهر في مدينة نصر.

استقليت ميكروباص متجه لمدينة نصر، في الطريق لاحظت عدداً غير مسبوق من اللوحات الإعلانية تحث المستهلكين على السعادة وعيش اللحظة وتجاهل الماضي، دعوة  للانضمام لفريق السعداء الناجيين.

فنانون تكشف ابتساماتهم عن أسنان بيضاء لامعة، فنانات مبتسمات تغمزن بإيحاء جنسي. شاشات عرض تبث إعلانًا لنوع جديد من الهواتف، يظهر فيها شاب مبتهج يلتقط صورة سيلفي بكاميرا الموبايل فائقة الجودة، ويرفعها على إنستجرام فتنهال عليه الإعجابات والتعليقات.

أثناء سرحاني في إعلانات السعادة اللانهائية التي تتراكم وتتكاثر على امتداد الطريق، لدرجة تبدو فيها لوهلة أنها تتوالد ذاتيا. رماني فجأة أحد الصبية في الشارع بقائمة ورقية لأحد مطاعم المأكولات السورية، مرسوم عليها شيف يغمز بعينه وترتسم على وجهه ابتسامة ساذجة، ويمسك في يده ساندوتش شاورما سوري كأنه يمسك بأير منتصب.

 

-7-

 

-تقريبا، نحن آخر شبحين للحزن في مدينة نصر.

قالها بعدما حكى لي باقتضاب عن مشروع إقصاء خطاب الحزن، الذي تقوم به منظمة تسيطر على مفاصل الدولة، حيث يعمل المشروع على نشر خطاب السعادة على عدة مستويات، يبدأ من إعلانات الشوارع، برامج التلفاز وإعلاناته ونشراته الإخبارية، مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتم حذف أغلب المنشورات أو التغريدات التي تظهر فيها نزعة حزن أو كآبة أو تدعو لنشر خطاب مضاد لخطاب السعادة، بالطبع لا يوجد مكان للنقد حتى على أبسط المستويات مثل نقد فريق كرة قدم أو حتى محل عصير قصب. وينتهي بصنع بعض التركيبات الكيميائية وإذابتها في بعض المنتجات التي يستهلكها المواطنون بكثافة. طبعا تتم مطاردة أشباح الحزن على مستوى جميع المحافظات، والقبض عليهم ووضعهم في سجون تحت الأرض، حيث يتم تكثيف جرعات التركيبات الكيميائية في أطعمتهم الرديئة، حتى يستطيعوا الخروج ومواجهة الواقع السعيد بوعي مناسب له، ليصبحوا واضحين كفاية ويتخلوا عن شبحيتهم وحزنهم، مالكين أفكارا صائبة عن واقع سعيد ينكرونه.

يهدف المشروع إلى وصول الإنسان إلى حلمه الذي طالما راوده كثيرا: السعادة. أن نمتلك بعدا واحدًا من المشاعر والوعي، يجعلنا ندرك الواقع في أبهى صوره بدون تناقض. ماكينات يائسة تنبض بالتغذي المحموم على السعادة ومنتجاتها. عملية تحويل جذري لكل ما هو فاعل إلى متلق سالب. سطوة الابتسامة الأبدية.

كنت أستمع لكلامه في صمت، أستنشق دخان الشيشة الذي ينفثه بلا توقف وأغيب في تحليل أفكاره وربطها ببعضها البعض، حتى بدأت في رسم صورة واضحة لمشروع الإقصاء.

 

-8-

 

أخبرني عن سبب إنقاذه لي، قال إنه رأى على وجهي ملامح حزن أصيلة لا يمكن الشك فيها. رأى شبحا هاربا من حصار سعادة جنونية، طبعا لم يضطر إلى إخباري كم سيجلب هذا له من متاعب ومطاردات ليلية من قوات مكافحة الأِشباح، خاصة بعد توظيف فرقة جديدة يستطيع أفرادها الطيران على ارتفاع عشرة أمتار وإطلاق اللهب من أفواههم، والرصاص من مؤخراتهم.

اتفقنا -أنا وهو- على السباحة بعيدا عن شواطئ العائلات. لن نتوقف عن الحزن، سنحاول تنظيم أنفسنا والتواصل مع أشباح العاصمة، حتى نشكل شبكة تمتد على مستوى الدولة، يمكنها يوما ما الصمود مرة أخرى في وجه تيار سعادة جارف لكل شيء. أثناء كلامنا تذكرنا حقيقة لا يمكن إنكارها: رغم كوننا أشباح لا تلتحم صراحة بالواقع، لكننا نمتلك قدرة على إثارة الرعب في النفوس.

قبل الإنتهاء من حديثنا، سمعنا سرينة سيارة مكافحة الأشباح تدوي في المنطقة، جرينا باتجاه التاكسي، ركبنا وانطلقنا في الشوارع بشجاعة مُبطنة بيأس لا يمكن إنكاره.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب وقاص من مصر.