أرجوان- كابوس أول
العدد 262 | 04 كانون الأول 2020
أحمد م. أحمد


 

خطُّ فِعْلٍ متّصل يذيبه اللامنظورُ- يُسْلِمُه إلى نقيضٍ يتقدّمه، يتركه وراءه كأحبولة، كأثر ‏لزجٍ على الذاكرة، كتملّصي بقول ما أهجسُ بعدم قوله‎.‎

البطلُ حبكةٌ من زئبق وكائنٌ رخو دائم الحضور لكنه أبديّ الغياب، تنتزع منه خصلةَ ‏شعر، وسرعان ما يتبين لك أنها بدورها كائن رخو يشبه أمه، يتملص من يدي، أو يدك، ‏ويدبّ مبتعداً وهو يفحّ: “قلت لك لا تعدْ إلى بلد الشراغيفِ الأُلى.‎!.‎

الخصلة الثانية، أتذكّرها. التصقت بالأرض، وشرعتْ تفحّ بصوتٍ ملأ المكان بالدوائر غير ‏المرئية، بصوت يشبه المجيب الآليّ في شركة دفن الموتى فيما يردد، والمكان مكتظ ‏بالجثث- “النيلُ الآن، النيل الآن..”، ونقيق مؤتمتٌ بين ‏العبارة والأخرى‎.‎

*

ثمة الرصيف الإسمنتي الواحد الصالح للسير بعرض متر، لصقَ جدارٍ من صخر مرصوف ‏مرتفع، والجثة التي تنظر إليك (أو إليّ، إذِ اختلط عليّ أنني “أنا” أو “هو”، أو شخوص ‏أخرى تتبدل بلا منطق!) وأنت، تقتعد الأرضَ بعد معركة لا تتذكر تفاصيلها مع جثة، تراقبُ ‏القاتل الذي طعنها قربك/ قربي، مخافة أن يغدر بك وقد نأى عنك مسافةَ قصبتين فتيّتين. لكنه يعود للانقضاض بشكل خاطف، (أناجيتَ طوطمك لحظةَ حسبتَ ‏أنك موشك على الموت؟). كان يقصد طعن الجثة ثانيةً لأنها أوشكت على الإمساك بياقتك ‏لتشدك وتسقط معها من على الرصيف المرتفع، وتحت الرصيف ثمة النتوءات الصخرية ‏المدببة كالتي تراها على طرف “أرواد” الشرقيّ‎.‎

*

يبتسم القاتل للنصر. تجد أن القاتل الآن قاتلةٌ، أنثى‎.‎

ــ”النيلُ الآن”، صرخوا (مَنِ الصارخُ؟)- أكانوا فتيةً وكباراً بعضهم موتى يرفعون ‏رايةً حمراء تحمل رسماً لزومبيِّ تشي غيفارا! كنتَ الفاتحَ لشيء لا تعرفه ولا يعرفونه، ولستَ ‏على يقين إن كنتَ في تلك اللحظة قد خسرتَ طرفاً، أو أن (تلك اللحظة) كانت حقاً ‏لحظةَ كابوس أو لحظةً من كابوس داخلَ الكابوس‎.‎

يدنو “ابنُ شعبٍ”، يربت على كتفك، ينتزع غشاء جرحٍ جافّ. تتساءل من الذي ‏يسكنك: أنا أم أنتَ- كنتَ تخشى أن تكون أنتَ مَن يسكنك، ثم ستخشى أن يكون زيتُ ‏النفطِ الممزوج بالهيولى داخل غشاء جسدك قد جفَّ وفقد صلاحيته على قتل يراعات ‏الهيولى- تقول في سرك، أيضاً، إن أكثر ما يخشاه (أنا)، وربما (أنت)، أن تتأذى منطقتا ‏النّمَش والخطّ العربيّ التقليدي المائل في علب السردين المرتّبة داخل ذلك المربع الإيديولوجي- ‏تتناولُ منطوقَ “النيل الآن” بالخط المائل، وتردده بشكل مقلوب‎.‎

‎*

منَ الكابوس داخل الكابوس، أشرتَ إلى فتىً هلّل لك/ لي أكثر من سواه. أشرتَ إليه ‏بإصبع قائدٍ، أو قرصان مظفّر، أن يذهب ويركل الجثة من على الرصيف برجل القاتلة ‏الأنثى، ويُعيدَ عضوها الأنثوي الأوتوماتيكي الذي سقط منها لحظةَ هنّأتكَ بالنجاة وهي ‏تلحس رقبتك بلسان ليس بالضرورة لسان سحلية معمرة‎.‎

تنفتح بوابات الدير العتيق لـ (وفدٍ) من كابوسٍ مجاور، حليق الذقن، في اللباس الرسمي. قال ‏رئيس الوفد للقاتلة التي ابتسمت ببرود وهي تُلقي بمبيضها الأرجواني في الهواء ثم تلتقطه، “قد ‏جئناكم بهذه الهدية”. وفتح صندوقاً أرجوانياً لتطير منه كلمة (التجريد) ثم تعود إلى الصندوق ‏لتتمدد في التجويف المخمليّ على قفاها، وتظهر عبارة “صُنع في الصين” المحفورة في المعدن ‏الذي عاد إلى طلائه المذهب القديم، الطلاء الذي تآكل عند الرؤوس المدببة التي تشبه ‏نتوءات أرواد. لم تكن (التجريد) منحوتةً يدوية بل قطعة مصنّعة في قالب ضمن معملٍ فقير ‏لا يجدد القوالب‎.‎

الوفد جوقةٌ الآن. تنشدُ المزامير في مديح المقتول ذي السن الذهبية الواحدة، والساق ‏الواحدة. (أفي جزيرة الكنز)؟

‎*

مَن شَخصُ الضريح؟

‏*‏‎

تراكضوا في ثيابِ البدوِ. كانوا مائدةً للرمل والريح.

وُلِدْنا من عربدة العواصف وراء آذانهم.

*

‏(فاصل أبيض، أو رماديّ مصمَت. لا صوت، لا صورة، لا ذاكرة، يشبه النمش على التلفاز ‏بعد اختتام البثّ بالنشيد الوطني)‎ .

اللغْط. الملائكة. الدكاكين المجنّحة. الصلعات البلاستيكية ‏المقلَّدة لصلعة مارلون براندو. والدواء الذي يقي النّصَّ من التماسك، كانت كلَّ ما غاب عن ‏عينيَّ/ عينيك‎.‎

لم أدرِ إن كنتُ على المرج أم على (ما قالتِ الريحُ للنخيلِ). ممتزج أنا كمفعول به في ‏القوالب الصينية. النيلُ الآن في القوالب الصينية‎.‎

تركَ الوفدُ سقراطَ مكبّلاً لدى أهل مدينة البراري. كان سقراط يرمق العضو الأنثوي على ‏منصّة القمر، ويكمل مخطوطه “عطرُ المساءات في هجاء النتوءات”. أتذكّرُ (أم تتذكَّرُ أنت؟) أن ‏رياحَ العاطفة الشرقية هبّت وكادت تقتلع تمثال سقراط/ ثمة صورة جامدة في تلفاز عُلْويّ ‏فضحتْ مناطحةً قديمة بين رأسه ورأس تمثال لينين‎/‎.

‏*

لتوّه، الغريب، حمل فعلاً نحويّاً شاذاً محيِّراً وسحريّاً لم يكشفْ عنه، وطأ سديمنا قادماً من ‏الحياة اليومية، من صورة اللقيط في شبابه. أولاني ظهرَه ووجهه في الآن نفسه، كانت رقبته قد ‏ترَبّتْ على الالتواء بزاوية 180 درجة. لحظةَ تمعّنتُ/ أو تمعّنتَ/ في وجهه تبيّنتُ أن أسنانه ‏تشكّلتْ قبلَه، ثم كان إضافةً نصف متقَنةٍ إليها. من أمامه، أو من ورائه، أو من جهةِ البطن، ‏وقف أبناءُ شعبٍ كادوا يشخّون من الضحك وهم ينظرون إلى انتفاخ وسطه بينما تعلّقتْ عيناه ‏بالدجاج الفرنسيّ. للكاميرا المدلاة من رقبته مسحةٌ أحفورية. رؤوس البثور على راحتيه ‏تشبه النتوءاتِ الصخريةَ على طرف الجزيرة الشرقيّ. همسَ عسس القاتل ذي المبيض ‏الأرجواني أن الرجلَ مفتولَ العنق قد جاء في مهمة سريةٍ تهدف إلى تملّصه من الحبكة‎.

ثمة متملِّصون آخرون من الحبكة. حمَلَ كلٌّ جعبةَ هواء وأطلق على جده اسمَ “الأثير بن ‏أبيه”. كان بينهم مَن نحتَ خُطّافاً أعلى الحَيْد، وأراد أن يعلّقَ محي الدين ابن عربي ‏عليه من ياقته، لكن الشيخ كان من أبناء جنسه، سليلَ هواء. كان النحاتُ ‏اللقالقَ. كان النحّاتُ اللقالقَ مرةً أخرى- لم يرضَ بأقلَّ من كينونتين/ صورتين ظليلتين ‏ستنطبقان حتى يتأكّدَ الهواءُ من هوائه. الآن دفقةُ قيء من “دَحَضَ” و”تَرنَّمَ” الصلبتين ‏فاحت رائحتها في المكان المشكوك في صلابته‎.‎

ينحني الراوي ليحاكيَ ميلان الخط المائل، الـ italic :. ‎لديّ استطرادات لا حصر لها. ‏أحتاج مئات علامات الترقيم. أحتاج مليونَ طيّةٍ وشقٍّ في هذا الوجيب الأملس كي أسرّبَ ‏عرَقَ المقولات، حيضَها البنيّ الصارخ‎.‎
المكان مشكوك في فيزيائه. كأن الفيزياء ميتافيزياء- ليس الرواي مَن يقول، إنما ‏راوي ما وراء الراوي، ما وراءه فيزيائياً، يمسك قلماً ويسجّل عدد فقرات ظهرِ الرواي/ ليس يرى ‏إلا ظهرَ الراوي. راوي الراوي فصاميٌّ تشظى بين ثلاثة رؤوس مثلثٍ متساوي الأضلاع، ‏وكلّ رأس، رغم تشابهه مع الرأسين الآخرين، يستجدي علاماتِ ترقيم وطيّاتٍ جديدةً لا ‏يسعُ الراوي والمرويّ له أن يفتّقها له. استحالة. الاستحالة. الـ (يا ليتني لم..)!

لم يختنق محي الدين ابن عربي وهو معلَّق على الخطّاف المنحوت من قداسِ باخ الشهير. كان ‏يقتات ويبلل شفتيه من ماءِ كتاب أبيض بين يديه‎.‎

‎*

‎………………!

‎*

الرصيف الإسمنتيّ شخصٌ. حاذى نهر الكلامِ. لم أدرِ أن النهرَ نهرُ كلامٍ حين قلتُ لابن ‏شعبٍ أن يرمي الجثّة. جفلتِ الصنابيرُ. نزَّ ماءٌ أخضر وزنجار وتجريدٌ لا يصلح للاستخدام ‏الفمويّ‎.‎

الرصيف أيضاً، قبل أن يقطعَ المنامَ شقٌّ أخضر من الواقعِ فاشيِّ الحضور، ضوءٌ متوتّر من رأس قضيبٍ يمسك به لحّامُ كهرباء، يلحمُ شفْرَ الأرض إلى شفر السماء. لم ‏يَقلقِ الجمْعُ على الزرقة. قد عمِينا. لم نعد نرى إلى تقاطرِ غزالاتِ روكفلر بحبّةِ كيتين تحت ‏لسان ذكورها، في إثرها أحافيرُ إناثٍ لم تنسَ دَسَّ الباركود تحتَ الجلد‎.

سرى في النسغ صوتٌ يقول إنه ليس صوتَ أسمهان. فيما تمعّجتْ في الأنهار الأناكوندا المعدنية، سرحتُ كسكّيرٍ يسألُ الساعةَ الناطقةَ عن ميعادِ ‏الـمِيْتةِ التالية‎.‎

‏*

على الجملة أن تتضعضع. “السأم”: رواية ألبرتو مورافيا، في الطبعة الخرائية، دون اسم ‏المترجم. اسم المترجم ليس تجارياً، كنيتُه (الزّقاقيّ) وصلعته يمور ما تحتها بمتوازيات إيديولوجية. لم ‏يثبتْ اسم المترجم على الغلاف الكرتوني المخصص لطباعة علب مضادات الفسفس ‏ومزيلات شعر العانة النسائية. لو وُضعَ اسم المترجم لمَثَل أمام السكانر، ولَنَسَلَ في ثوانٍ ‏وتجنّحتِ السيمياء تحت الصلعة السماوية، ثم طارت في مدار رقمي واحد، تخفق بشكل ‏رقميّ، الصوتُ ديجيتاليّ رتيب. هندسةٌ أَكولٌ. معنىً مسرطِنٌ. وثمة عصابة أوغاد وراء ‏الشاشات البعيدة يلوذون بمراحيضهم بين الحين والحين، يُجْرون المياه في القعدات الإفرنجية كي ‏تبتلعَ التقاريظَ، تقتلَ الدليلَ الأخير. قدِ اكتملتِ الجريمةُ الآن.‏

السأمُ والسيمياء المجنّحةُ، ليس الأصلع الإيديولوجيّ، شخصان آخران في هذا النشيج، ثم ‏الحرب على ‏touch screen‏ السماء. انتبهْ يا راويَ ظهرِ الراوي، لا تتحدث بنشيد، لا ‏تُناجِ، لا تنبس بشبيه ما أهرف به اللحظةَ- رعديدٌ أنا، أهرب من أن أكون راويَّ الأولَ، أنا ‏الفارّ من شبيهيَ، أنا علّاك الكلام، بائع الكلام المعلوك، أنا المعلوك.‏

يكاد الرصيفُ أن يكون الجزيرةَ مدبّبةَ الاستطالات الصخرية. أرتخي، أنا/ أنتَ، حتى ‏ليسمع كلانا صوتينا ننشجُ في الغراباتِ، نقولُ، كومضةِ وجعٍ تمتدّ من جهة القلب الوحشية ‏إلى جهته الأنسية، جملةً لطاغورَ حطّتْ على شغافٍ: “..أصواتُ أولادٍ عُصاةٍ عند ‏الماء..” /./ نقطة.

يرسل السكانرُ فاحصُ التوازي صعقةَ وجعٍ تلتفّ لتشمل فقراتِ الراوي ‏الأول النحيل. يجفل راوي ظهره، يعمى إلى حين. فلتتوازَ مع الأرقامِ أيها الرَّقِيْمُ‏

ههنا يتلوّى السرد كدودة على طحلبٍ شاذٍ تسرب من بالوعة في مختبر أبحاث. سيموت ‏السردُ التالي. ستحتاج أيها الرقم إلى كمّامةٍ للسرد: السردُ انسمام.‏

*

هتْكُ النسيجِ- والنسيج شخصٌ كما تمريغُ الشخوص بالنسيجِ- الغايةُ. والغايةُ حفيفٌ بطيء، ‏رخويٌّ، هيولاهُ أشباهُهُ الصّغارُ. نقطة. أشباهُه الصغارُ همودُ الذاكرات، تَمَوُّتُ العصبونات، ‏بطءٌ دون الـ التعريف. نقطة تسبق نقطةَ اللانقطة. لا أفعال: قوتُ الراوي الفعلُ، لا يقظة دون فعل، ‏لا يقظة في هذا الموطئ. ثمة انسرابٌ مريب لغبار النسيج إلى الحواسّ المتقلِّبة. نُوىً، أثلامٌ، ‏فقراتٌ ابيضّتْ نتوءاتها وازرقّتْ مَهَالِكُها. لا مناص من القطْعِ الآنَ بنقاطٍ ثلاث (…‏)!
قد قطَعْتُ لتململِ ابنِ عربيّ تحتَ النتوءِ، إذ انفكَّ شفرُ الأرض عن شفرِ السماء. بقي من ‏قضيب لحام الأوكسجين جمرة متوهجة تواترت إلى حينٍ في دوائرَ ثم خمدتْ، حمراءَ، ‏حمراء. قال الراوي الأخيرُ وهو يدخل في الشخوص إن الجمرةَ- الأرجوانَ الآن هي Sirius، النجمُ الكلبُ، أو ‏الشِّعْرى اليمانيةُ كما هتفتْ من قبلُ قوافلُ الأَعراب.‏

*****

خاص بأوكسجين


كاتب ومترجم وناشر من سورية. من مؤلفاته: مجموعة قصصية بعنوان "جمجمة الوقت"" 1993، و""أحرق سفنه إلا نعشاً"" نصوص 2014. صدر له العديد من الترجمات منها: ""رجل في الظلام"" 2010 و""حافة البياض"" 2014 لبول أوستر، و""مع بورخيس"" 2015 و""المكتبة في الليل"" 2015 لألبرتو مانغويل، و""ذلك الشيء الصغير وسيد التبديات"" 2015 لتشارلز سميك وغيرها من مجموعات شعرية وقصائد مختارة مترجمة."