أدب لازلو كرازناهوركاي الغريب العجيب
العدد 183 | 21 تشرين الثاني 2015
جيمس وود | ترجمة: شادي خرماشو


“الواقع امتحنك حتى أوصلك إلى حافة الجنون”. كيف ستبدو هذه العبارة في الكتابات المعاصرة؟ قد تبدو وكأنها مأخوذة من إحدى أعمال لازلو كرازناهوركاي، الكاتب الهنغاري المثير للجدل والإعجاب… ذاك العجيب الغريب المهووس الممسوس وصاحب الأعمال الأدبية التي لم يصدر سوى اثنين منها في اللغة الإنجليزية، وهما The Melancholy of Resistance “كآبة المقاومة” (التي صدرت في اللغة الهنغارية في العام 1989، وفي الإنجليزية في العام 1998، وWar and War “الحرب والحرب” (التي صدرت في العام 1999، وتُرجمت في 2006)، وقد صدرت الروايتان عن دار نيو ديريكشينز.

كان الأدب الطليعي في فترة ما بعد الحرب، تماماً كما هو حال الأدب التقليدي في تلك الفترة، يجنح إلى التذبذب بين الإفراط (الغزارة والانغماس والتورط) والقلة (الاختصار والاقتضاب وما أسماه صمويل بيكيت “lessness” أو التقتير إذا جاز التعبير): بدأ بيكيت عمله الأدبي ككاتب مفرط، وأنهى حياته ككاتب مقتر أو مقلّ. لكن هذا التصنيف ليس دقيقاً في الواقع، ذلك أن الإفراط في روايات الأدب الطليعي غالباً ما يبدو وكأنه اقتضاب، فالإفراط يتبدى في تكثيف الجملة أكثر مما يظهر في الجوانب الأخرى التي عادة ما يربطها الكثيرون بحبكة الرواية وشخصياتها ومواضيعها.

الكثير قد تلاشى الآن من هذا العالم الأدبي، وبدأ الكاتب يركز على حشو الجملة وتدبيجها لتصوير أصغر الاستحقاقات والتذبذبات والجزئيات والبراهين وضروب إنكار الحياة. هذا سبب واحد قد جعل الجمل المديدة طويلة النفس والمفتوحة، سواء الأدبية أم الشفهية، متلازمة مع تطور الأدب التجريبي منذ خمسينيات القرن الماضي. كلاود سيمون، وتوماس بيرنارد، وجوزيه ساراماغو، ودبليو جي سيبالد، ولازلو كرازناهوركاي، جميعهم استخدم الجمل الطويلة لتحقيق أهداف مختلفة، لكنهم جميعاً كانوا على خلاف مع واقعية نحوية صرفة، بينما كان ما يتبعونه فعلاً ينحصر في حزم صوتية ووحدات نحوية تم الاصطلاح عليها. في الحقيقة، كان من الممكن أن تُسبغ على كل هؤلاء الكتّاب صفة الواقعيين بشكل أو بآخر، لكن الواقع هو أن الكثير منهم كان معنياً بـ”الواقع الذي اختبرك حتى أوصلك إلى حافة الجنون”. هذه العبارة كتبها لازلو كرازناهوركاي، ومن بين كل هؤلاء الكتّاب قد يكون لازلو الأغرب والأكثر إشكالية. جمله الشاقة التي تشق طريقها دون توقف محملةً بما يجعل الواحدة منها قادرة على شغل فصل بأكمله، تُشعرك أنها قادرة على الاستمرار إلى ما لا نهاية بتدفق متواصل لا توقفه أي نقطة أو نهاية.

المترجم اللامع لأعمال كرازناهوركاي، وهو الشاعر جورج سيرتيش، يصف النثر الذي يؤلفه كاتبنا هذا بأنه “تدفق بطئ من الحمم الروائية التي تشكل نهراً أسود يستمر في الاتساع”. سبر أغوار شخصياته ومعرفة ما الذي تفكر فيه أمر صعب في كثير من الأحيان، ذلك أن عالمه الأدبي يتأرجح على حافة الكشف الذي لا يتكشف في النهاية. في “الحرب والحرب” نلتقي بجورجي كورين الذي يعمل كأمين إرشيف ومؤرخ محلي في إحدى البلدات الهنغارية ويصاب بالجنون. طوال الرواية تراه يقف “على عتبة التوصل لاكتشاف مصيري” لكننا لا نكتشف أبداً ما هو هذا الاكتشاف. وفي ما يلي أحد المقاطع الطويلة التي يعرّف فيها كرازاناهوركاي القرّاء إلى انحرافات كورين الذهنية الجامحة:

“لإنه لم يرغب في العودة إلى منزله كي لا يبقى وحيداً في شقة فارغة في يوم عيد ميلاده، ولأن ما حدث حدث فعلاً على حين غرة وبكل قسوة، حينما أدرك هكذا فجأة بأنه، يا الله، لا يفهم شيئاً… لا يفهم شيئاً أبداً عن أي شيء، حباً بالله، لا شيء أبداً عن كل هذا العالم، كان هذا إدراكاً مرعباً، قال، وخاصة بالطريقة التي تكشفت له تلك الحقيقة بكل تفاهتها وابتذالها وسخفها وسقمها، لكن هنا مربط الفرس، قال، كيف أصبح مدركاً الآن، الآن وهو في الرابعة والأربعين، كم يبدو في منتهى الغباء أمام نفسه، وكم يبدو فارغاً، وكم كان في منتهى التخلف في فهمه العالم على مدى السنوات الأربع والأربعين الماضية، لأنه، كما أدرك أثناء سيره قرب النهر، لم يكن قد أساء فهم الحياة وحسب، بل أنه قد أساء فهم كل شيء عن أي شيء، والأسوأ من هذا وذاك هو أنه كان يظن على مدى السنوات الأربع والأربعين الماضية بأنه يفهم العالم وأمور الدنيا، بينما كان في الواقع قد فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، وهذا كان في الواقع أسوأ من كل ما عداه في ليلة عيد ميلاده وهو جالس على ضفاف النهر، الأسوأ لأنه قد أدرك الآن أن عدم فهمه لم يعنِ أنه لم يكن يفهم ما يحدث الآن، ذلك أن اكتشافه نقص معرفته لم يكن في حد ذاته نوعاً من المعرفة التي قد يعلل النفس بها شخص أكبر منه سناً، إنما اكتشاف طرح نفسه كلغز مرعب في اللحظة التي فكر فيها في العالم، وهكذا طوال تلك الأمسية لم يكن يفعل شيئاً سوى جلد نفسه بكل قسوة باذلاً كل جهد لديه ليفهم ذلك اللغز لكنه كان يفشل لأن اللغز كان يبدو أكثر تعقيداً وكان قد بدأ يشعر أن هذا العالم – اللغز الذي كان يحاول فهمه بكل ما أوتي من قوة، الذي كان يجلد نفسه محاولاً فهمه، كان بالفعل لغزاً عن نفسه وعن العالم في آن معاً، وهذا ما كان له التأثير نفسه كأنه والعالم قد أصبحا شيئاً واحداً، ولم يكن قد استسلم لفشله بعد، عندما، بعد يومين من ذلك، لاحظ أن عقله يعاني من خلل ما”.

يكشف هذا المقطع عن الكثير من صفات أدب كرازناهوركاي: بناء الجملة التي تتدفق دون رادع، الأسلوب الذي يتمدد فيه ذهن كورين ومن ثم ينكمش ويهاجم ذاته وكأنه عقرب يحاول لدغ نفسه، وفي الختام تلك الجملة الكوميدية اللامعة التي اختتم بها هذا التدفق الأدبي البديع. يتمتع هذا النوع من النثر بأسلوب المراوغة المصححة لذاتها. لكن، بكل ما في الأمر من مشقة وخفّة دم، لا تقدم لنا كل تلك التصحيحات الإجابة الصحيحة في نهاية المطاف. كما هو الحال مع توماس بيرنارد، الذي نلمس تأثيره في أعمال كرازناهوركاي، حيث نرى كيف يتم القبض على كلمة مفردة أو مركبة (“اللغز، العالم-اللغز”) والتفكير بها، ووأد ما فيها من معاني لتصبح بلا معنى ويصير تكرارها مفزعاً ومضحكاً في الوقت نفسه. بينما تنخرط الشخصيات في أعمال بيرنارد في حوارات طوباوية خالية من المعنى على نحو غريب، وهي حوارات يمكن إزالتها من الفضاء الروائي وإعادة طرحها كمقاطع من الكوميديا السوداء، يذهب كرازناهوركاي بعيداً في جمله الطويلة فيدفع بها إلى أقصى مدى ليصوغها في مناخ مشحون حرون تصل فيه إلى حالة من الشلل الحركي يدور فيها الرأس ويدور بدون أن يصل إلى نتيجة ملموسة.

في رواية “الحرب والحرب”، المنقوش على غلافها عبارة “الجنة حزينة”، يعثر كورين على مخطوط في الأرشيف الذي يعمل فيه فتتغير حياته كلياً. تبدأ القصة عندما تقع يده على نص يبدو أنه يعود في تاريخه إلى أربعينيات القرن الماضي ضمن صندوق عليه لصاقة مذكور عليها “أوراق عائلية ليس لها أي أهمية”. النص هو عبارة عن قطعة أدبية سردية تتحدث عن أربعة رجال هم شير وفالكي وبينغازا وتوهوت. يختبر هؤلاء الأربعة مغامرات حقيقية يمتد محيطها من كريت إلى كولون وشمال إنجلترا، وتدور أحداثها خلال حقب تاريخية مختلفة. ينبهر كورين بجمال المخطوط المغمور، ومنذ اللحظة التي يخرجه فيها من الصندوق “تتغير حياته إلى الأبد”. ولأنه كان مختلاً في الأساس، يقرر أن المخطوط يحمل في طياته رؤية وجواباً دينياً يفسرا له “لغز” حياته. كان متأكداً من أن المخطوط “يحكي عن جنة عدن” ويقرر أنه يجب أن يذهب إلى ما ظنه “مركز العالم الحقيقي، والمكان الذي تتخذ فيه كل القرارات الهامة، حيث تحدث الأشياء الحقيقية، مكاناً بأهمية روما، روما القديمة، حيث كانت القرارات تُتخذ والأحداث تقع… أن يذهب إلى هناك ويترك وراءه كل شيء آخر”. يقرر أيضاً أن هذا المكان هو نيويورك. هناك سيقوم بنشر المخطوط من خلال طباعته ووضعه على شبكة الإنترنت. بعد ذلك، يقول لنفسه، إن حياته ستصل إلى نهايتها.

ولد لازلو كرازناهوركاي في جيولا الواقعة جنوب شرق هنغاريا في العام 1954. وكان قد أمضى جزءاً من حياته في ألمانيا وأمريكا، لكن اسمه معروف في أوروبا أكثر من أمريكا. (يكاد يكون من الأسماء المعترف بها على نطاق واسع في ألمانيا، ويعود هذا في جزء منه إلى الوقت الطويل الذي قضاه هناك، وطلاقة لسانه في اللغة الألمانية، والحديث عنه كأحد المرشحين لنيل جائزة نوبل). وقد ذاع صيته من خلال الروائع التي أبدعها المخرج بيلا تار الذي تعاون معه في العديد من الأفلام، بما فيها Damnation “اللعنة” و Werckmeister Harmonies “ريكمايشتر هارمونيز” (وهو الفيلم الذي أخذه تار عن رواية “كآبة المقاومة”) والعمل الضخم.  Sátántangó “تانغو الشيطان”… ذاك الفيلم البديع الذي يزيد زمن عرضه على السبع ساعات. تلك أعمال كئيبة متكهفة تبدو من خلال موشورها الأبيض والأسود وحواراتها القليلة المتناثرة وأهدافها غير المعلنة وكأنها تريد أن ترتد إلى عصر الصورة الصامتة، كما أنها تقدم لصانعي الأفلام نظيراً لجمل كرازناهوركاي الأفعوانية أثناء تصوير لقطات التعقب الطويلة التي يمكن أن تستمر لغاية عشر دقائق: في “ريكمايشتر هارمونيز” ترافق الكاميرا شخصيتين هما السيد إيشتر وفاليوشكا أثناء سيرهما عبر شوارع إحدى البلدات… تلك النزهة المطولة الصامتة تبدو وكأنها تحدث في زمن حقيقي وفي حياة فعلية. طوال الفيلم نرى الكاميرا تركز على وجه فاليوشكا الوضّاء الخالي من التعبير، وفاليوشكا هو شخص ساذج وحالم ومأزوم تسكنه تقوى مؤمن يقبّل أيقونته المعبودة. أما في فيلم “تانغو الشيطان” فنرى بناءً يشبه رقصة التانغو (ست خطوات إلى الأمام، وست إلى الخلف) ليصوّر لنا كياناً جامعاً يقف على حافة الانهيار. يتميز الفيلم بمشاهده الطويلة غير المختصرة، كذاك المشهد الذي نرى فيه سكان القرية يرقصون وهم سكارى (نشوة رأى تار أنها كانت حقيقية لا تمثيل فيها).

لا يمكن لهذه الأعمال السينمائية أن تنقل عمق الانغماس الغريب الذي تتصف به أعمال كرازناهوركاي الأدبية (ولا تحاول ذلك حتى)، وذلك بحكم ما تتصف به هذه الأعمال من قسوة وجرأة. يقدم “ريكمايشتر هارمونيز” صورة مبسّطة عن المكائد السياسية التي يحيكها القرويون في “كآبة المقاومة”، ويتم هذا على حساب الدفع بالقصة إلى حدود الواقعية الأوروبية السحرية. ينتظر القراء الإنجليز المزيد من كرازناهوركاي، ويعولون على مترجمه سيرتيش بالطبع، وعلى السخاء التنويري الثقافي لدار نشر نيو دايريكشنز، وعلينا أن نتقبل ذلك كحقيقة واقعة، ذلك أن أعماله تنزع إلى أن يتم تداولها كنفائس نادرة وبعيدة المنال.

سمعت أول مرة عن “كآبة المقاومة” من طالب روماني كان قارئاً نهماً، وكان هو نفسه من سلمني بعد ذلك نسخة منها، وأقنعني بأنها ستعجبني. عندما بدأت بقرائتها، كنت مشتتاً بين الحماس والإحباط من التدفق الطباعي المحموم لتلك الجمل التي لا تنتهي، فوضعت الكتاب على أحد الرفوف العالية بتلك الروح الانهزامية المتشائمة التي نتعامل بها مع المهام الشاقة لنعلل النفس بقولنا “يوما ما سأفعلها”. الإحساس بنوع من الحماس الطقسي استمر على ما يبدو. في يوم من الأيام، وبينما كنت أدوّن ملاحظات عن هذه الكتب، توقفت امرأة هنغارية قرب طاولتي في المقهى وسألتني عن سبب دراستي لأعمال هذا الكاتب بالذات. كانت تعرف أعماله، حتى أنها كانت تعرفه في الواقع (وقالت لي أنها ذهبت لحضور فيلم Pulp Fiction بصحبته عند عرضه في السينما)، وكانت تريد أن تتحدث إلي الآن بخصوص هذا الكاتب بعينه.

للغموض الأدبي الذي يحيط بعالم كرازناهوركاي دور في إزكاء هذا الحماس. وإذا ما قارنا بينه وبين عالم توماس بيرنارد، نجد أن عالم هذا الآخير مجنون وعاقل في الوقت نفسه. في عالم بيرنارد تجد مثلاً شاعراً وكاتباً يستعيد ذكرى صديق له انتحر، وكيف كانا يتأثران بعزف Glenn Gould. ترد هذه القصة في رواية “الفاشل” The Looser لبيرنارد، ويقدم هذا الكتاب نمطاً متطرفاً من السرد بصيغة المتكلم غير الحقيقي، إلا أنه يتوافق على الأقل مع عُرف أدبي عام متفق عليه. حتى لو كانت الجمل صعبة، فإن عالماً كهذا يكون قابلاً للاستيعاب، وقد يكون منطقياً للغاية. لكن الهوة عند كرازناهوركاي لا قرار لها، وكل ما في عالمه بعيد كل البعد عن المنطق. في أغلب الأحيان لا يكون لدينا أدنى فكرة عما يحفّز الأفكار الأدبية لديه. قراءة أعماله تشبه مراقبة مجموعة من الناس يتحلقون في ساحة إحدى المدن، ويبدو في الظاهر أنهم يجتمعون على شعلة من النار ليدفئوا أيديهم لنكتشف بعد ذلك، إذا ما اقتربنا منهم أكثر، بأنه لا يوجد نار، وأنهم يتحلقون حول فراغ.

في “الحرب والحرب” يسافر كورين إلى نيويورك، ويعثر على سكن مشترك مع مترجم هنغاري يدعى السيد شارفاري، ويحصل هناك على كمبيوتر ويبدأ بطباعة نص المخطوط بالغ الأهمية بالنسبة إليه. لكن يأسه النابع من تعلقه الشديد بنص المخطوط لم يكن يعادله سوى عجزه عن وصف المعنى الحقيقي لهذا المخطوط: كانت أول ثلاث جمل كافية لتقنعه بأنه أمام وثيقة غير عادية، شيء خارج حدود المألوف، أخبر كورين السيد شارفاي بأنه سيسمح لنفسه بأن يتمادى في تفكيره ويقول… أنه سيقول إن العمل الذي وقع بين يديه كان من صنع أحد العباقرة الكونيين العظماء، وبأنه سيقلب الموازين ويعيد الأمور إلى نصابها، لذلك كان يتابع القراءة، ويعيد قراء الجمل حتى مطلع الفجر وشروق الشمس التي ما أن تشرق حتى تغرب تاركة للعتمة أن تحكم المكان من جديد وهو يقرأ ويقرأ… الساعة حوالي السادسة مساءً، وكان يعرف، كان يعرف تماماً أن عليه أن يفعل شيئاً حيال تلك الأفكار الهائلة التي تولد في رأسه… أفكار تدور حول اتخاذ قرارات مصيرية عن الموت والحياة، عن عدم إعادة المخطوط إلى الأرشيف وضمان حفظه في مكان مناسب، إذ أنه عقد العزم على جعل المعارف الواردة فيه أسساً يسير عليها ما تبقى له من حياة على هذه الأرض، وعلى السيد شارافاي أن يفهم أن هذا يجب أن يُفهم بالمعنى الدقيق لكل كلمة، لأنه قد قرر ذلك لحظة انبلاج الفجر مع العلم أنه يريد أن يموت على أي حال، ومع أنه وضع يده على الحقيقة، لم يكن أمامه ما يفعله سوى أن يرهن حياته للخلود… بالمعنى الدقيق للكلمة.

ليست “الحقيقة” التي وضع يده عليها كورين هي الشيء الوحيد المجهول هنا، بل عدم تدخل كرازناهوركاي في مصير كورين هو أمر لا ندري سببه أيضاً.  يتم السرد هنا بأسلوب الغائب، ولكن لاحظ الطريقة الغريبة المتقلبة التي ينجرف بها داخل سرديات نشاطه المستمر (“استمر بقراءة وإعادة قراءة الجمل حتى مطلع الفجر”)، وتوصيف الحالة الذهنية (“عليه أن يفعل شيئاً حيال تلك الأفكار الهائلة التي تولد في رأسه”)، والحوار الداخلي الذي يتوجه فيه إلى السيد شارافاري (“أخبر شارافاي أن ما بين يديه شيء خارج عن المألوف”).  المقطع كله، حتى تلك العناصر التي تبدو راسخة فيه كحقيقة موضوعية، تنطبق عليه صفة الهلوسة والهذيان. تشعر وكأن كورين قد أمضى وقته كله في التحدث بجنون وهيجان إلى الآخرين أو إلى نفسه، وقد لا تشعر بأي فرق بين الحالتين. تقريباً في كل صفحة من “الحرب والحرب” نجد عبارة “قال كورين”، أو بما معناها مع اختلاف التعبير مثل “كان هذا هيرميز، قال كورين، هيرميز موجود في كل شيء”). تلك محاكاة ساخرة لإسناد الخبر إلى مصدره كما نرى في الصحف، والهدف منها التشكيك بالنزاهة الصحفية. تأتي لحظة في “الحرب والحرب” نحصل فيها على هذا الاعتراف الجلل: “صدقني عندما أقول لك، وكما قلت لك من قبل، أن النص كله غير صالح للقراءة، إنه نص مجنون!”

في نيويورك، يبدأ كورين بإخبار السيد شارفاري أولاً، ومن ثم شريك هذا الأخير، عن المخطوط. يوماً بعد يوم، تراه يجلس في المطبخ معيداً رواية القصص عن كاشر وفالكي وبينغازّا وتوهوت. يعيد كرازناهوركاي تجسيد تلك القصص الجميلة المليئة بالغرابة – ثمة مقاطع رائعة عن كاتدرائية كولون وسور هادريان. يخبر كورين شريك شارفاري وهو يقرأ المخطوط ويقوم بطباعته بأنه قادر على “رؤية” تلك الشخصيات لأن النص مؤثر على نحو خارق: “كان يستطيع رؤية وجوههم وتعابيرهم بوضوح لا نظير له منذ اللحظة التي بدأ فيها بالقراءة… وجوه وتعابير تراها مرة واحدة فلا تنساها ما حييت” قال كورين. وشيئاً فشيئاً يتأكد القارئ مما كان يرتاب في أمره منذ البداية، وهو أن كورين لم يعثر على أي مخطوط، إنما الحقيقة أنه كان يجترح مخطوطاً بنفسه في نيويورك، أي أن هذا “المخطوط” هو من بنات خياله، ورؤية مبهمة لرجل مجنون. لا مناص إذاً من أن تتحول لازمة “قال كورين” إلى لازمة أخرى نقرأ فيها ضمناً عبارة “كتب كورين”. أفعال القراءة والقول والكتابة والتفكير والابتكار كلها مختلطة في ذهن كورين، وهذا ما يؤدي حكماً إلى اختلاطها في ذهن القارئ أيضاً.

لكل هذه الأسباب أعتبر هذه التجربة من أكثر التجارب تشويشاً وزخماً وزعزعةً لي كقارئ. شعرت في نهاية الرواية بأنني وصلت إلى أبعد مكان يمكن للأدب أن يأخذني إليه لأعيش شعور شخص آخر وأتلبس حالته، ولأعيش بالتحديد الحالة الذهنية لشخص مقبوض عليه في “الحرب والحرب”… أن أدخل هذا العقل الذي لا يخلو من رؤى الجمال وحسب، بل التائه بشكل كامل في أتون قصصه التي لا قبل لها بأن تُحكى، والمشتت في جحيم ألمه الخصب الغريب (“الجنة حزينة”). هذا الألم يتم تصويره في صفحات “الحرب والحرب” بقدر الألم الذي يشعر به كورين وهو يقرأ في صفحات مخطوطه: “كان المخطوط يتطرق إلى شيء واحد فقط، وهذا الشيء كان “الواقع الذي يختبرك حتى يصل بك إلى حافة الجنون”، وتجربة كل هذه الحدة والتفاصيل، وتصوير هذا التكرار الهوسي الخالص لمسألة تعيش في الخيال… مسألة كانت، يقول كورين، وقد عنى ذلك حرفياً، وكأن الكاتب لم يكتب ذلك النص باستخدام القلم والكلمات، بل نقشه بأظافره التي كانت تنغرز في الورق مخترقة إياها ورقة ورقة إلى أن تصل إلى الدماغ وتنغرز فيه إلى الأبد”.

أما أحدث عمل لكرازناهوركاي في اللغة الإنجليزية فلم يكن عملاً روائياً، إنما عبارة عن تعاون فني بينه وبين الفنان الألماني ماكس نيومان. ” Animalinside” (الذي ترجمه أوتيلي ملزيت، وتم نشره بشكل مشترك من قبل دار نشر “نيو داريكشينز” و”سيلف إيديشينز أوف لندن”، ومركز الكتّاب والمترجمين في الجامعة الأمريكية في باريس) هو عبارة عن سلسلة من أربع عشرة لوحة فاتنة وغامضة مرفقة بنصوص كتبها كرازناهوركاي، وكل نص منها بطول فقرة واحدة.

يقول كولم تويبين إن كرازناهوركاي عمل أولاً على لوحة واحدة من لوحات نيومان، “بعد ذلك، وبعد أن استنهضتنه الكلمات التي كتبها كرازناهوركاي، قام نيومان بإبداع باقي اللوحات ليطلق كرازناهوركاي العنان لقلمه بتأثير اللوحات الآسرة مبدعاً ثلاثة عشر نصاً آخر”. تحتوي تصاوير نيومان على كلاب سوداء ملتصقة باللوحات في صور ظليلية كثيفة، بعضها ضارٍ ومستذئب، وبعضها مرحٍ وكرتوني. في الصورة الأولى نرى كلباً (أو ذئباً) يتأهب للقفز، لكن يبدو وكأنه حبيس غرفة صغيرة، ورأسه يوشك أن يلامس السقف. في الرابعة نرى الكلب الأسود يحاول القفز من جديد لكنه عالق في مستطيل يشبه الشبكة. أما في الخامسة فنرى شخصاً يقرأ الصحيفة بهدوء، يبدو كأستاذ جامعي راضٍ عن نفسه وقانع بما لديه، بينما نرى الكلب الأسود يقفز باتجاه رأسه من يسار الصورة.

بأسلوب شبيه بالأسلوب الذي نراه في مجموعة القصص القصيرة التي كتبها بيكيت “نصوص عن لا شيء”، غالباً ما تبدو كلمات كرازناهوركاي وكأنها تأويل لما قاله الراحل بيكيت… هناك تركيز مطّرد على اللاشيئية، الشعور بالأسر والوقوع في فخ لا مهرب منه، الاستمرار والشعور بالعجز عن التقدم. هذه الجزئيات الجميلة نرى فيها تلك الحدة المفرطة لجمل كرازناهوركاي المطولة، وبالتحديد تحكمه في التكرار والصدى. في النص الأول مثلاً، يرى كرازناهوركاي الكلب كضحية عالقة في صندوق يحاول يائساً الهروب من قفصه، وملعون “يعوي النبحة في قلب النبحة”. تراه يأخذ كلمتين، هما “شدّ” و”لا شيء”، ليصنع منهما “نبحة واحدة” من خلال استخدامهما مرة تلو أخرى:

أريد أن أشد الجدران لأحطمها… لأفتح فيها ثغرة تحررني، لكنها هي من يشدني ويحطمني، وها أنا باقٍ في الأسر هنا، تحت هذا النير، وليس أمامي إلا أن أعوي، والآن وإلى الأبد لن أكون شيئاً إلا توتري وعذابي وعوائي، كل ما كان لي أصبح الآن لا شيء… ليس لدي أي شيء مشترك مع المكان… مع كل هذا العالم الذي جاد به الله علينا… ليس هناك شيء مشترك بيني وبين أي كيان في هذا الكون، ولهذا أنا غير موجود، أنا أعوي فقط، والعواء ليس معادلاً للوجود، على العكس، العواء هو يأس”. قد يذهب ذهن القاريء إلى رواية “ما لا يوصف” The Unnamable وصرخة الراوي تمرداً على كونه “شيئاً لا صوت له في فضاء فارغ  وأسود وبارد وجاف ومغلق وقاسٍ لا شيء فيه يتحرك، ولا شيء يتكلم… كوحش ولد في قفص من رحم وحش ولد في قفص من رحم وحش ولد في قفص من رحم وحش ولد في قفص ومات في قفص… ولد ومن ثم مات”. يُعتبر كرازناهوركاي كاتباً  سياسياً بدرجة أكبر من بيكيت، ومما لا جدال فيه أن يكون هذا الوحش الحبيس محشواً بأهمية سياسية وأخلاقية.

الكلب هو ضحية وجانٍ في آن معاً… أو بالأحرى هو جانٍ لأنه ضحية في المقام الأول. لو استطاع لكان “انقض عليك ليغرز أسنانه في حنجرتك”. في النص الخامس المرفق بصورة الكلب وهو ينقض على الرجل الذي يقرأ صحيفته بكل رضا وقناعة، يبدو أن الوحش قد تحول إلى الآخر… الآخر الذي يشكّل كل ما يهدد البرجوازي الذي يحيا حياةً سعيدة، هذا الآخر قد يكون المهاجر أو الأرهابي أو الثائر، أو حتى ذلك الغريب الخائف:”سأمزق وجهك وأُزيل ملامحك، والممتع بعد كل هذا أن أخشى ما تخشاه وتخاف حتى من تخيله سيتحول إلى واقع تعيشه بكل تفاصيله”. يتعهد الكلب بأنه سيأتي كالقضاء المستعجل، كيوم الحساب، كلص في عتمة الليل… سيأتي ليحطم كل كيان جامع: “لأنني سأنقض بسرعة خاطفة يتعذر على أحد أن يقيسها… لأنه قبلي لا ماضٍ يُذكر، وبعدي لا حاجة إلى المستقبل، فلن يكون هناك مستقبل… لأن وجودي لا يُقاس بالوقت، ما أن ترفع رأسك عن صحيفة اليوم، ما أن ترفع نظرك إلى الأعلى قليلاً، ستراني أمامك كقدر ما منه مهرب”.

في نهاية هذا النص المتوحش، يتخطى الكلب رمزيته السياسية ليصبح ذا رمزية لاهوتية وما ورائية. أصبح الكلب الآن يشكّل مصدر الخوف الباطني للجميع، والقدر المحتوم للكل. ربما كان قد كابد الألم وسكرات الموت وضروب الشر، أو ما يدعوه نورمان راش في روايته Mortals “الخالدون” فم الجحيم: يفغر الجحيم فمه أمامك مباشرة بدون سابق إنذار”. وبالرغم من أن كلب كرازناهوركاي يبدو وكأنه يتأمل في أفكاره وتهديداته المتوحشة ويوجهها نحو البشر في حوار داخلي فظيع، إلا أن الإيحاء الماكر هنا يأخذنا إلى التفكير بأن كل هذه الأفكار ليست سوى تلاوة للخوف الإنساني الذي يعيشه ذاك الذي يقرأ جريدته بهدوء وسلام، وتصوره للوحشية والفظاعة.

من الواضح أن كرازناهوركاي مفتون بيوم الحساب والرؤى المحطمة والرسائل المبهمة. أن تكون دائماً “على عتبة إدراك مصيري” هو أمر طبيعي عند شخصيات كرازناهوركاي، تماماً كما هو التأمل في ماهية الله عند شخصيات دوستويفسكي. عالم كرازناهوركاي هو عالم دويستوفسكي نفسه مع فارق واحد، هو أن الله قد أُخرج من الكادر وغادر الصورة في عالم كرازناهوركاي. روايته “كآبة المقاومة” هي عبارة عن كوميديا عن يوم الحساب… كتاب عن إله لم يفشل في الامتحان وحسب، بل أنه لم يحضر حتى في يوم الامتحان.

يتميز هذا العمل بأنه أقل جنوناً وتفخيخاً من “الحرب والحرب”، وبأنه يمتلك عناصر الرواية الاجتماعية التقليدية. تجري أحداث الرواية في بلدة هنغارية، وتحوي بين صفحاتها طيفاً متنوعاً من الشخصيات النابضة بالحياة: السيدة الخبيثة الوطنية نصف الفاشية إيشتر التي تحيك المؤامرات لتسيطر على المدينة وتعيّن نفسها في منصب رئيس لجنة التجديد الأخلاقي والاجتماعي، وزوجها السقيم المتفلسف الموسيقي الذي استقال منذ وقت طويل من إدارة فرقة أوركسترا المدينة ليمضي أيامه مستلقياً على كرسيه الطويل مجتراً أفكاره المريرة، ويانوش فاليوشكا، ساعي البريد والحالم المتبصر الذي يمضي نهاره متجولاً في أرجاء البلدة متأملاً في نقاء الكون ومعرّضاً لسخرية الآخرين الذي يظنونه ساذجاً أو غريب الاطوار، والطاقم المكمِّل الذي لا بديل عنه في الأعمال الروائية الكوميدية الأوروبية “قائد الشرطة المخمور، والمحافظ سيء الطالع”.

لكن هذا الملخص البسيط لا يوفي هذه الرواية الغريبة والمبهمة حقها. تعيش المدينة حالة من التدهور والشك: مصابيح الشارع لا تعمل، والقمامة مكومة في الطرقات لا تجد من يلمّها. يصل سيرك جوال إلى المدينة، ولا يكون هذا السيرك يمتلك من عوامل الجذب سوى حوت هائل الحجم موضوع في عربة غريبة الشكل لا باب لها، بالإضافة إلى بعض الأجنة المحفوظة. كان السيرك يتجول في المنطقة ومعه تسير مجموعة من المشاهدين الذين يبدو عليهم الطيش والعشوائية لكنهم يوحون بالشر في الوقت نفسه… مجموعة من الرجال يتسكعون في ساحة البلدة الرئيسية قرب الحوت الضخم في انتظار حدوث أمر ما.

كل شيء ينضح بالغموض والترقب. هنا تجد السيدة إيشتر فرصتها… إن تتمكن من إثارة بعض الفوضى (أو إدارتها حتى)، وعزو هذه الاضطرابات إلى (قوى شريرة)، لتقوم بعد ذلك بقمع هذه الاضطرابات، فإنها بالتأكيد ستحقق غايتها في رئاسة “حركة الساحة النظيفة والبيت النظيف”. يصل هؤلاء الرجال أخيراً إلى مرحلة الهيجان، ويبدأون بتحطيم كل ما تقع عليه أيديهم من بشر وحجر، حتى أنهم يضرمون النار في الأبنية. لكن لماذا؟ لا أحد يجيبنا عن هذا السؤال. أحد هؤلاء الرجال يصرّح قائلاً: “لم نجد موضوعاً مناسباً لكراهيتنا ويأسنا، ولهذا هجمنا على كل شيء صادفناه في طريقنا بالمقدار نفسه من الغضب العارم.” تم استدعاء الجيش وتحقق النصر للسيدة إيشتر. ولم يكن قد مر على توليها القيادة سوى أربعة عشر يوماً حتى بدأت “تُزيح كل قديم بائد وتستبدله بكل جديد رائد”.

ليس من الواضح ما إذا كان للحوت أي علاقة باندلاع أعمال العنف تلك; كرازناهوركاي، وبأسلوب خبيث ماكر، يترك الاحتمال معلقاً بأن يكون السيرك عملاً فنياً صعباً أساء فهمه كل من قرأه على أنه أحد عناصر يوم الحساب بالطريقة نفسها التي يساء فيها فهم الأعمال الفنية الغامضة والثورية (ملمحاً إلى أن هذه الرواية هي من ضمن تلك الأعمال). الحوت هو عبارة عن إلماع هزلي كئيب لأعمال ميلفل، وربما أعمال هوبس أيضاً، كوحش لوثيان البحري، وموبي ديك… هو إلماع ملتبس ورهيب وقادر على توليد قراءات وتفاسير متعددة. لكن الإله البروتستانتي الجامد والميت والساكن الذي جعل لاهوت ميلفل القصصي قابلاً للفهم قد اختفى من هذه المدينة المرعبة التي ترخي جبال كاربات عليها بظلالها. أما العربة الشريرة التي بلا أبواب والتي تلبث بصمت خبيث وسط ساحة البلدة فهي تنطوي أيضاً على دعابة وسخرية من حصان طروادة. من الطبيعي في عالم كرازناهوركاي أن يكون حصان طروادة فارغاً وألا يخرج أحد منه.

“كآبة المقاومة” هو كتاب صعب ومجهد، كما أنه يزخر بالتشاؤم أيضاً، خاصة وأننا نرى فيها تكراراً للقطات ساخرة من إمكانية اندلاع الثورة. المقاومة الوحيدة التي جابهتها السيدة إيشتر أتت من فاليوشكا (الذي تم القبض عليه واحتجازه في مصح للأمراض العقلية)، ومن زوجها الذي يعتبر ضعيفاً ومنعزلاً وخصماً لا يُحسب له حساب. متعة الكتاب، وما فيه من مقاومة أيضاً، تنبع من تلك الجمل المديدة الاستثنائية الملتفة حول ذاتها، والتي يمكن النظر إليها على أنها من أجمل ما كُتب في عالم التداعي الذهني المتحرر من الفواصل والنقاط. يتم استخدام هذه الجمل بذكاء خاص تبدو معه وكأنها تتعقب خط السير الذي يتبعه فاليوشكا الذي يتجول في أرجاء البلدة مجتراً أفكاره الكونية ورؤاه الغريبة، ومسار السيد إيشتر الذي أمضى سنوات طويلة وهو مهووس بتعديل أوتار البيانو خاصته على نغمة ريكمايشتر القديمة، وبعد ذلك باختيار فرقة موسيقية ليعزف معها ما تبقى من عمره.

يمكن لكرازناهوركاي أن يكون كاتباً كوميدياً. يتضح هذا في شخصية السيد إيشتر الذي يتمكن أخيراً من تعديل أوتار البيانو، ويجلس ليعزف فيُذعر من الأصوات البشعة التي يصدرها. بالنسبة إلى إيشتر، الموسيقى هي شكل من أشكال المقاومة. “الإيمان، فكّر إيشتر… ليس متعلقاً بالإعتقاد بشيء ما، بل بالاعتقاد بأن الأشياء ممكن أن تحدث بطريقة ما… كذلك الموسيقى لم تكن تعبيراً عن جانب أفضل في ذواتنا، ولم تكن إشارة إلى فكرة ما عن عالم أفضل، إنما هي قناع نخبئ وراءه حقيقتنا ووضاعتنا والحالة المزرية للعالم، كلا، ليست مجرد قناع، بل نكراناً لتلك الحقائق وتحريفاً لها: كانت علاجاً لم يأتِ بالشفاء… عقاراً مسكناً تحول إلى أفيون مخدّر!”

الأعمال الأدبية الذهنية قد تثير سخطك، وقد تقودك إلى الجنون أحياناً، لكنها قد تكون موردك الوحيد الذي تستقي منه القدرة على “المقاومة”. كورين وفاليوشكا والسيد إيشتر هم، بطرق مختلفة، باحثون مهووسون عن النقاء والبراءة. عدم قدرتهم على وصف جنتهم الخاصة أو تشريعها بشكل كامل لا يجعل عوالمهم الداخلية أقل جمالاً، بل على العكس، يضفي هذا المزيد من الجمال عليها. لكن لا مهرب بالنسبة إلينا، وربما بالنسبة إليهم بشكل أكبر، من التسليم بحقيقة أن “الجنة حزينة”.

____________________________________

عن مجلة نيويوركر

*****

خاص بأوكسجين