أحلام قروية
العدد 263 | 15 شباط 2021
مروان عثمان


 منذ رآها وانقلب حاله رأساً على عقب، وصار يسأل السماء والنجوم والأبراج، أرباب العمل وبرامج التلفزيون والراديو، والأهل والأصدقاء ومدربي التنمية البشرية حول كيفية الإيقاع بها.

 خصوصاً وهي فريسة صعبة المنال، ابنة الحسب والنسب، ساكنة الفيلا ذات الحديقة الوارفة، وحمام السباحة، الذي يبلغ اتساعه وحده ضعفي العقار الذي يقطنه ويتحايل على دفع إيجاره الزهيد.

 فمنذ جاء من بلدته في شمال الدلتا بحثاً عن الذات وقذفه القطار المزدحم في العاصمة، تلقفته أحياء القاهرة وحرفها اليدوية التي لم يعمر في واحدة منها أكثر من ثلاثة أشهر على بعضها.

 ويوماً جاءه في المنام حلم غريب، وجد نفسه واقفاً في أحد حقول بلدته التي يملكها أحد الباشوات ويعمل هو في زراعتها بالأجرة منذ الصغر، فشل في تثبيت إحدى الشتلات في الأرض، بدأ يحفر ليتفقد الأرض، وعثر على صندوق خشبي عتيق يحوي داخله عدة أوراق، فتش فيها بحجة إعادة استخدام وتشغيل القراءة التي يحاول ألا ينساها بعدما تعلمها بصعوبة في كتاتيب القرى ومدارسها التي قصدها لماماً إلى جانب العمل في الحقول.

 فوجد بين تلك الأوراق حُجة تعود إلى زمن الإصلاح الزراعي –وقتما لم يكن قد وُلد بعد- كُتب فيها أن ملكية تلك الأرض بفدادينها الواسعة تعود إليه هو، وقد قرأ اسمه الرباعي ورقمه القومي في الورقة…

 استيقظ على أذان الفجر، وجاءه بعد ساعات من هذا الحلم الأثير أحد المعارف بمصلحة -كما يقول-، إذ يحتاج الباشا الذي يعمل بواباً على فيلته –كما يقول أيضاً- إلى بستاني يفطن لخبايا الزراعة ويتوارث أسرارها من قديم الأزل، بدلاً من أولئك البستانيين الجدد الذين لا طعم لهم ولا رائحة لورود وأشجار الشركات الخاصة التي يعملون بها..

-شجرة جميلة تلك التي بين يديك.

خطفته بابتسامتها التي تنم عن خجل جم، وجمال لا نظير له.

 صحيح أن بالجملة كما يبدو خطأَ لغوياً، إذ من غير المنطقي أن يحمل شجرة كاملة بين يديه، إنها فقط شتلة أو شجيرة على وجه الدقة، لكن من هو ليعارضها بكل هذا الشرح الممل لتبيان الفارق بين الشجرة والشجيرة، يكفيه أنها نطقت، أما البقية فمتروكة للمهتمين بعلم اللغة وعلوم النبات يتجادلون فيها كما تأتى لهم!

-شكراً.

 رد خطأها اللغوي بخطأ آخر وشكرها كأنها مدحته هو وليس النبات الذي يحمله بين يديه.

 سلبت لبه، وابتسم في داخله مُرحباً بالوقوع في فخ الإعجاب بها، قابلاً تحدي صيدها، تلك التي يبدو صيدها أصعب من اصطياد ذكر الشاهين المسافر، الذي يعدون العدة في قريته عاماً بأكمله ترقباً لموسم ظهوره فوق البحر، ويشترك ما يقرب من نصف البلدة في نصب الفخاخ له، ومتابعته بالمنظار عبر البحر الواسع في انتظار وصوله قادماً من بلاد أخرى ومحاولة الإيقاع به، التي وإن تمت ونجحوا في الإمساك به وتعصيب عينيه فور الوقوع في الفخ، تضج القرية بالاحتفالات لأيام وليالٍ متواصلة..

 ابتسم في بلاهة مُستقبلاً تلك الذكريات، وتلك المفارقة التي ستجعله وحده يحاول الإيقاع بما هو أصعب من ذكر الشاهين.

 نطق بعد استدراكه أنه لازال واقفاً أمامها مُتسمراً:

-إنها شتلة جوافة، عليك بانتظار تمدد فروعها وطرحها لثمارها الطيبة.

ضحكت في جمال لم يعتد عليه، لم يُمكنه من إيجاد تفسير دقيق للضحك.

أسعادة؟!

أو لعلها تندراً بلهجته الغريبة عنها؟!

أم تراه إعجاباً بخلفيته الزراعية التي لم تر لها مثيلاً من قبل؟!

 كل تلك التأويلات لضحكتها تعد حلماً في خياله، كلها وقعها جميل على نفسه.

قرر ملاطفتها بطريقته:

-أتُراك تريدين صنفاً معيناً بالحديقة؟!

بدا عليها بعض التفكير، صنّفه اهتماماً منها باهتمامه بها، ثم قالت من باب تشجيعه على أغلب الظن:

-مسك الليل.

وأردفت مفسرة في ابتسامة ساحرة:

-تعجبني رائحته.

رد بتلقائية انتظر استخدامها طويلاً:

-غالي والطلب رخيص.

 عصا عليها تفسير رده، وإذا ما كان طلبها غالياً أم رخيصاً، وكيف يكون الشيء وضده في آن واحد، لم تجهد نفسها في الاستغراق في تلك الأمور التي ظنت أنها ما عادت تهم أحداً، داعبت شعرها اللامع بأصابعها الرشيقة، وتذكرت أن لديها موعداً، فودعته ورحلت تاركة إياه في بحر من الهيام والتأويلات التي تُلغي الوجود البشري للأرض بأسرها، وتتركهما وحيدين معاً على سطحها كآدم وحواء عندما هبطا من السماء وشرعا في استكشاف أسرار الزراعة معاً.

 خلال الليل وفي أثناء افتراشه للحشية التي اعتاد التمدد عليها ليلاً، راوده حلم آخر…

 رأى مدرب التنمية البشرية الذي عرفه من خلال أصدقائه في البلدة، واعتاد متابعة فيديوهاته وتسجيلاته حتى أدمنها، واقفاً وسط الظلام وقد تبدا منه مع خيوط من دخان أبيض، وخاطبه بصوت ذي صديً مميز..

“كل يوم يصحو الأسد مستعداً للركض وراء الغزالة والإمساك بها،

وكل يوم تصحو الغزالة مستعدة للركض من الأسد الذي يطاردها والإفلات منه،

هكذا هي الحياة، الجانب المشترك بين كل مخلوقاتها هو احتياجها اليومي للسعي والركض..”

خُيل إليه أنه اشتم رائحة مسك الليل العطرة، وسمع موسيقى جميلة، أشرقت معها الشمس على مشهد لحديقة الفيلا وقد امتلأت بكافة أنواع النباتات والورود التي تتبادل الفراشات الهبوط عليها، والقراميط تلعب وتُبلبط في مياه حمام السباحة النقية الشفافة التي تعكس أشعة الشمس.

استيقظ من نومه، واسترق السمع في انتظار أن يعلن المؤذن عن أذان الفجر لإضفاء اليد القدرية على رؤياه، اعتدل جالساً على الحشية ليفيق، ونظر إلى ساعة تليفونه المحمول فوجدها قد تجاوزت منتصف الليل بقليل ولازال أمامه ساعتان أو أكثر حتى الفجر، تذكر كلمات مدرب التنمية البشرية التي لم ينسها وكأنه سمعها في الواقع لا الحلم، ولم يدر أكأسد أم كغزال سيفعلها، لكنه قرر الركض الآن وفي تلك اللحظة!

 ارتدى ملابسه على عجل، واتجه صوب الفيلا متنقلاً على أظهر الموتوسيكلات المختلفة التي يجد أصحابها على الطريق في هذا الوقت المتأخر الذي تغيب فيه المواصلات، فيطلب منهم في ود توصيله لأقرب مكان لهم..

 حتى وصل فوجد الباب الخارجي مغلقاً كما تصور، والبواب في إجازة بالقرية كما يعرف، وبالتأكيد لن يتصل بالباشا في هذا الوقت المتأخر ليطلب منه أن يفتح له البوابة مهما كان السبب، فما باله وقد أتى ولم يحدد سبباً لمجيئه بعد!

 قفز سور الفيلا القصير، ونزل في الجانب الآخر منها، بين الأشجار التي يعرفها جيداً ويعرف استعدادها لتلقفه واستقباله في أي وقت.

 نزل عن الشجرة ورأى بيت الكلاب أمامه فتذكر أمر تلك الكلاب التي يجئ الباشا لها بمدرب خاص، ثم رفع رقبته وسدد نظرة لأعلى، لغرفتها، أو على وجه الدقة لتلك الغرفة التي تصور أنها غرفتها، فوجدها مظلمة، وفكر في إثارة انتباهها بأي طريقة لتقلق من نومها وتخرج إلى الشرفة متناثرة الشعر، باحثة عن سبب الجلبة.

 ثم تستفيق لتسأله عن سبب حضوره المتأخر في هذا الوقت، وقد يحنو قلبها الذي يبدو طيباً لم يتعرض لسوءات الدنيا ويتغير، فتعرض عليه الدخول والاحتماء من البرد الليلي، وشرب كوب من النسكافيه معها بانتظار شروق الشمس على الأقل..

 حضر في ذهنه خطاب مدرب التنمية البشرية الحماسي من جديد، فاتجه صوب بيت الكلاب، ونبح في وجهها نباحاً عالياً، نباحاً رفع عقيرته للحد الذي آلم حنجرته، وتلك الأحبال الصوتية التي لم تعتد تنفيذ أوامر مماثلة من العقل تتعلق بإصدار هذا النوع من الأصوات.

 فما كان من الكلاب إلا ونبحت نباحاً منبهاً لبعضها البعض، كان آخر ما سمعه بأذنيه قبل صوت سيارة الإسعاف، التي يتذكر وهو محمول إليها على النقالة، نظرته لأعلى بعينيه غير القادر على فتحهما أو إغلاقهما، ولمح منها نظرة بدت حانية، وبدون مناسبة تصاحبها ابتسامة بدت في غير موضعها!

*****

خاص بأوكسجين


قاص ورائي من مصر. صدر له رواية بعنوان "حكاية سقطت من الزمن"" (2017)."